العدد 3589 - الأربعاء 04 يوليو 2012م الموافق 14 شعبان 1433هـ

مثلُ عمىً يدّعي الإحاطة بكل شيء

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الفاشلون يتبرأون من تاريخهم في حاضر ملتبس بالنسبة إليهم، في محاولة لولوج مستقبل يتوهّمونه. الطرق والأساليب المؤدّية إلى ذلك المستقبل المُتوَهَّم لن يكون محلّ مراجعة وفحص أخلاقي. ذلك آخر الهمّ بالنسبة إليهم ولا يعنيهم في شيء.

قبل سنوات، كتب الروائي والشاعر السوري، سليم بركات، في نصّه المُحْكم «بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح»: «بيته معه. يمضي فيمضي بيته معه». لم يكن يتحدّث عن كائن هلامي، ولم يكن خائضاً في مساحة من الحنين الذي ينتاب كثيرين؛ وخصوصاً في لحظات عزلتهم القسرية؛ وحتى الاختيارية؛ على رغم محصّلات كل منهما. كان يضيء مستقبل من هم حكماء في اختيار سبلهم ومجازاتهم للوصول إليه. لا يفكّر لحظة في فعل التشويه كي يبدو جميلاً، ولا يحاول لحظة أيضاً أن يتوّرط في السلْب كي يترك الناس مخفورين بعرائهم والعدم!

ما الذي يجعل هذه الحياة منذورة للتراجع والقلق؟ ما الذي يجعلها على فوَّهة تهديد واستلاب سوى الذين تقذف بهم المراحل والصُدْفة كي يكونوا في الصدارة بانتزاع حق من هو أولى منهم بتلك الصدارة؛ لتتخلّف الحياة، ويتخلّف معها كل ما يمتُّ إليها بصِلة؟

محاولة البعض إيهام أنفسهم بأنهم جاءوا لينقذوا الحياة من منافسيهم والأغيار، وينقذوها من غياب حضورهم فيها، هو بحدّ ذاته التهديد الذي يُحْدق بالحياة، ويهدّد قدرتها على أن تكون متجدّدة ومتحرّكة، حين يهيمن النمط ذاك، ويسود الجمود ومن يمثلهما.

صار العالم اليوم محكوماً ومُرْتهَناً إلى سُلَط الصدفة، تلك التي تطلع على الناس من دون رؤية وبرامج وأهداف، سوى رؤية ما يرون ليكون في الصدارة من مشهد الحياة وحركتها، سوى برامج تخدم حضورها وهيمنتها، وأهداف لن تعود على الضحايا سوى بالهشّ والرخو من النتائج والمحصّلات.

ثمة إصرار على تكريس تبعية المجموعات البشرية لسلطة الفرد. كيف لفرد بهكذا نزوع وشهوة أن يكون أميناً وقادراً وعارفاً بنزوع المجموعات البشرية تلك؟ كيف له أن يضبط إيقاع ذلك النزوع؟ كيف له أن يُحدِّد أفقها الذي صادره، ولا وجود له أساساً؟ فيما يأتي ممارساً لاستهداف الأغيار مع سبق الإصرار والترصُّد؟

كأنَّ الفرد ذاك يعمد إلى الارتداد للتاريخ: تاريخه، بكل ما يحمله من عُقَد ومثالب ومحاولة القفز على منطق الأشياء قبل القفز على منطق يحكم سلوك البشر وخياراتهم. تاريخ فشله وخيبته، في مناورة تشفٍّ وانتقام لتحقيق «خيبة المستقبل» للمجموعات البشرية تلك.

لا نتحدث هنا عن هيبة الإنسان؛ لأنها ليست حاضرة، ولا وجود لها كما يبدو، ضمن هكذا اختطاف لخياراته، والقفز على منطق الأشياء قبل القفز على منطق يحكم سلوك البشر الذي أشرت إليه. نتحدث عن هيبة مُتَخيَّلة ومصطنعة ومفروضة فرضاً، تتوخّى - فيما تتوخّاه - استلاب ومحو أي شكل من أشكال النظام باعتباره ضابط إيقاع للحياة والبشر.

مثل أولئك الفاشلين، ممن وردوا بداية هذا المقال، لا يصنعون حياة أساساً. إنهم نتاج ومشروع احتضار كل شيء تطوله أيديهم وهيمنتهم. إنهم مسوِّغ عدم ممارسة الحياة وبشرها البحث عن الحلول، والركون إلى الأزمات والإقامة فيها.

ثم إن المقتحمين لاستقرار الحياة في محاولة واهمة لتجييره لصالحهم، إنما يعملون على هدّه وانتزاعه من شروشه. ذلك ما يظنونه قدرة على الفعل، فيما هي قدرة على الخراب وموهبة الذي لا يُحسن صُنعاً في الحياة!

هم تماماً مثل الذي يريد أن يفهم ما لا يراه. مثل حديد يعد بالخصب. مثل جزَّار يتحدّث عن صلة الأرحام. مثل جرَّافة تعد بإزالة الحشائش الضارة في حقل. مثل عمى يدّعي الإحاطة بكل شيء!

ثم إن التاريخ لم يصنعه الفشل - بالعودة إلى الحديث عن الفاشلين - ولم تصنعه «الفزعات» التي يتم اصطناعها، وتقوم بأوامر من جهات مأزومة وتعيش فترات تفكّك وانحلال، وباتت ممارساتها مكشوفة للقاصي والداني. مثل ذلك التاريخ مفرغٌ من قيمته ولا روح فيه، وبالنتيجة لا يمكن الاتكاء عليه تسلُّحاً وتداركاً لمثالبه في الطريق للولوج إلى مستقبل لا يمكن أن يجيء أو يفتح أبوابه لعابثين بتلك المواصفات!

ومثلما يرى المؤرخ البريطاني الكبير، أرنولد توينبي (ولد في 14 أبريل/ نيسان 1889 في لندن وتوفي في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1975، ومن أهم أعماله موسوعته التاريخيَّة المُعنونَة «دراسة للتاريخ» التي تتألَف من اثني عشرَ مُجلَّدًا أنفق في تأليفها واحدًا وأربعين عامًا)، أن سقوط الحضارات يعودُ إلى ثلاثة أسباب: ضعف القوَّة الخلاَّقة في الأقلِّيَّة المُوجِّهة وانقلابها إلى سلطةٍ تعسفية؛ وتخلِّي الأكثريَّة عن مُوالاة الأقلِّيَّة الجديدة المُسيطرة وكفِّها عن مُحاكاتها؛ والانشقاق وضياع الوحدة في كيان المُجتمع؛ فإن الواهمين والفاشلين هم أكثر قدرة على تحقيق مزيد من ارتدادهم وخيباتهم، في طريق محاولة تصدير ذلك الارتداد والخيبات لمن يرون فيهم أغياراً، عليهم أن يكونوا في أقل من الهامش!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3589 - الأربعاء 04 يوليو 2012م الموافق 14 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:29 ص

      الجهل لا تلد الحياة نواته إلا كما يلد الرمام الدودا

      مجرد تصحيح للبيت حيث كتبته (زائر رقم 1) خطأً هاكذا:

      الجهل لا تلد لاحياة نواته إلاّ كما يلد الرمام الدودا

      والصحيح:

      الجهل لا تلد الحياة نواته إلا كما يلد الرمام الدودا

    • زائر 1 | 2:58 ص

      الجهل لا تلد لاحياة نواته إلاّ كما يلد الرمام الدودا

      البيت لشاعر لا أعرف اسمه فقد مر علينا أيّام دراستنا في القسم التجاري في مادة البلاغة، فليعذرني قائله.

      وتمثّلت بهذا البيت هنا لأنه يلامس حالة تجمّع الوحدة والنتيجة التي انتهى إليها ملامسة دقيقة. والحقيقة أن نتاج الرمام أكثر فائدة من نتاج تجمّع الوحدة، فالدود الذي هو نتاج الرمام وإن كان ضاراً، إلاّ أنه قد تكون له فائدة، كأن يصنع منه بعض المضادات الحيوية، وأما نتاج التجمع فكله ضرر مع الأسف.

اقرأ ايضاً