العدد 3584 - الجمعة 29 يونيو 2012م الموافق 09 شعبان 1433هـ

التدريب على تحمل المسئولية

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

للأسد في اللغة العربية العديد من الأسماء والصفات، التي نجدها في شعرهم أولاً، ثم في المصادر التاريخية والأدبية العديدة. ومنها على سبيل المثال ما جاء في قول ابن خالويه: إن للأسد خمسمئة اسم وصفة. وقد اعتادت العرب أن تسمّي أبناءها تفاؤلاً بما ترجو أن يكونوا عليه من السمات حيناً، أو بما تظن أنه يخيف الأعداء حيناً آخر! لذلك نجد أن أسماء بعض الأبناء جاءت على هذه الشاكلة: ليث، أسد، ضرغام، أسامة، حيدرة ... وهلم جرا.

في هذا السياق روي أن رجلاً كان له ولد اسمه ضرغام يصحبه إلى الغابة ويدربه على صيد الحيوانات والطيور حتى صار شاباً قادراً على العمل، فنصحه أبوه أن يعتمد على نفسه ويخرج للصيد وحده. خرج الشاب حاملاً زاده ذاهباً إلى الغابة، وفي طريقه رأى ثعلباً هرماً جائعاً، وبينما هو يحدث نفسه متسائلاً: كيف يحصل هذا الثعلب الهرم على قوته، أحسّ ضرغام بحركةٍ غريبةٍ؛ فاختبأ خلف شجرة فإذ بأسدٍ يجر فريسةً أكل منها حتى شبع، ولما انصرف الأسد زحف الثعلب ليأكل مما خلفه الأسد من الفريسة.

عجب الشاب مما رأى، وقال في نفسه: لقد أصاب الثعلب رزقاً بلا كد ولا تعب. فلماذا أبتعد عن أهلي وأتحمل متاعب السفر ومشقة العمل في طلب الرزق؟ عاد الشاب إلى أبيه وقصّ عليه ما رأى ليبرر أسباب عودته. فقال له أبوه معاتباً: أريدك يا بني أن تكون أسداً تأكل من فضلاتك الثعالب، لا ثعلباً تأكل من فضلات الأسود. وتذكّر يا بني أن العرب تقول: «لكل امرئ من اسمه نصيب». فهم الشاب مقصد أبيه؛ فخجل من نفسه وعاد من جديد ليعمل ويكد ويحصل على رزقه معتمداً على نفسه.

تذكرنا هذه القصة بقول روي أليكساندر في تعريفه لمفهوم تدريب الناس في مؤسسات العمل على تحمل المسئولية، أنه منح السلطة للآخرين للقيام بمهام محددة تحت إشرافك. ولعلها رسالة إدارية تربوية نسوقها للآباء لتدريب أبنائهم على تحمل المسئولية، ليس عبر النصائح والخطب الرنانة، بل بالتطبيق العملي حيث يقوم الأبناء بالتنفيذ ويقوم الآباء بالإشراف والمتابعة.

في كتابهما الرائع «القيادة تحدٍّ»، يقول جمس كوزس وباري بوستر: إن موقف الموظف هنا يقول: كنت أعرف أنني سأتمكن من عمل ذلك، فيما تقول توقعات الرئيس: كنت أعلم أن بإمكانك عمل ذلك.

هكذا تبنى الثقة بين الوالدين والأبناء على تكليف واضح ودقيق ومحدد للمسئوليات، ثم يتم بعد ذلك التدرج في تحمل المسئولية شيئاً فشيئاً بحسب قدرات الأبناء. ومما يلاحظ غالباً؛ أن التوجيهات تكون عامةً؛ مما يخلق نوعاً من سوء الفهم بين الأطراف. ومثال ذلك أنه عندما يقول الأب للابن: لا تتأخر في العودة إلى المنزل؛ فإن هذه توجيهات مبهمة وغير محددة. فما هي الساعة التي يعتبرها الأب تأخيراً؟ وعندما يعود الابن في وقت يراه الأب متأخراً بينما يراه الابن غير متأخر ينشأ الخلاف. لماذا؟ لأن التعليمات كانت غير واضحة وغير محددة.

وأود أن أقف هنا مرةً أخرى مع كتاب «القيادة تحدٍّ»؛ لأنه وثيق الصلة بموضوع «تحمل المسئولية»، وهي الخطوة الأولى لصناعة قادة جدد من جيل الأبناء «جيل الشباب» الذين يمثلون الرصيد الاستراتيجي للمجتمع. فقد كان هدف المؤلفين (كوزس وبوستر) من نشر كتابهما، معالجة قضايا اكتشفاها أثناء بحث أجرياه على أناس عاديين حققوا «مستويات قيادية ممتازة». علماً بأن البحث شمل ثلاثة آلاف قيادي في مجالات متعددة ومن مستويات مختلفة، وفي ظني أن مبادئ الكتاب مفيدة على مستوى الأسرة والمجتمع ومؤسسات العمل أيضاً. وقد حدّد المؤلفان نتائج مهمة لهذا البحث تشمل عناصر أساسية للقيادة هي: القدوة والريادة والإلهام وإقناع الآخرين وبناء رؤية مشتركة وتمكين الغير من الفعل وتشجيع الجرأة والإقدام.

أتساءل هنا: من منا لا يطمح إلى أن يرى أبناءه يشار إليهم بالصلاح والنجاح؟ لذلك فإنني أنصح الآباء بفتح قنوات حوار إيجابي ومرن وبشكل هادئ مع الأبناء؛ فالحوار لغة القرآن ومنهج العصر. يقول كوزس: «الذي اكتشفناه، وأعدنا اكتشافه، هو أن القيادة ليست ملكاً خاصاًّ لعدد قليل من الرجال والنساء ذوي الشخصيات الكاريزمية»، ويضيف بوستر: «يقوم الناس بإنجازات مذهلة من خلال إطلاق القائد داخل كل منهم».

وعلى صلة بحديثنا عن تحمل المسئولية؛ نورد ما أشارت إليه دراسة مقارنة معاصرة بين المجتمعين التركي والأميركي، وهو أن الدافع للانجاز لدى الأميركان أعلى منه لدى الأتراك. وكشفت الدراسة عن السبب الذي يقف وراء ذلك السلوك هو العلاقة الإيجابية بين المسئوليات التي يتحملها الطفل في البيت وبين الدافعية للإنجاز. فكلما زادت واجبات الابن نحو البيت ارتفع مستوى دافع الانجاز عنده؛ وبذلك يمكن القول إن دفع الطفل إلى الاعتماد على نفسه، وتكليفه بأداء مهامه، والتأكيد على استقلاله في وقت مبكر من حياته؛ يؤدي إلى ثقته بنفسه. يقول الإمام علي (ع): «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته».

نخلص مما سبق إلى أن الأب إذا كان حصيفاً وراغباً في تدريب أبنائه على تحمل المسئولية، فعليه القيام بأمرين:

أولاً - أن يقوم بتدريب الأبناء بالتدريج على تحمل المسئولية، وأن يمنحهم هامشاً من الحرية للتطبيق، ثم يتابع صقل قدراتهم ومهاراتهم شريطة ألا يغفل عن تطبيق مبدأ مهم وهو: «تقبل الأخطاء الناجمة عن التجريب».

ثانياً - منح الثقة مع التقدير والثناء على الإنجاز. تماهياً مع توجيهات علماء الأخلاق «شكر المنعم واجب عقلاً»، أو كما في المأثور «قل للمحسن أحسنت». ويؤكد غازي القصيبي في كتابه «حياة في الإدارة» أن منح الثقة سر عظيم! وفي ذلك يقول: افتح المجال أمام الآخرين وسيذهلك ما تراه من منجزاتهم.

نشير ختاماً إلى أنه إذا كان أحد الأبوين مهزوم الشخصية فاقداً للثقة في نفسه وفي قدراته ومعلوماته؛ فإنه لا يمكن أن يثق بالآخرين، والأمر في غاية البساطة، ففاقد الشيء لا يعطيه. وقد استنتج الباحثان (كوزس وبوستر) من دراستهما الثرية التي تحدثنا عنها هذا الأمر، وعبّرا عنه بقولهما: «إن الزعماء لا يسيطرون بل يمكنون الآخرين من التصرف». وأرغب بتذكير الآباء بأنه إذا دربت بنيك على فن الصيد؛ فلا تنسَ أن يكونوا أسوداً.

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3584 - الجمعة 29 يونيو 2012م الموافق 09 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:08 ص

      جيد ولكن

      مشكلتنا نحن الآباء مع الجيل الجديد بأننا حاولنا أن نوفر لهم كل شئ والسبب أننا نخاف عليهم من الانحراف أو اللجوء إلى طرق غير صحيحة للحصول على الأشياء فوقعنا في خطأ الاتكالية علينا وعدم الاكتراث بالمسئولية لأنهم يعلمون بأننا سنوفر لهم كل شئ حتى بالاقتراض المهم نتخلص من تذمرهم ونشغل وقتهم حتى نتفرغ للعمل ليل نهار لتوفير جميع المستلزمات الأساسية والكمالية، وهذا مؤلم للغاية فما هو السبيل الآن لنخرج من هذا المأزق

اقرأ ايضاً