أخيراً وبعد انتظار طويل؛ أعلنت لجنة الانتخابات الرئاسية في مصر، فوز مرشح الإخوان المسلمين، محمد مرسي برئاسة جمهورية مصر العربية بنسبة تتجاوز الـ 51 في المئة على منافسه أحمد شفيق. وبموجب هذا الفوز سيصبح مرسي أول رئيس في الجمهورية الثانية، بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني العام 2011، ويأتي هذا الإعلان وسط حالة من القلق وعدم الاستقرار، وأيضاً مع تغيرات سريعة في المشهد السياسي. فمن جهة جاء الإعلان، بعد فترة قصيرة من إعلان آخر مفاجئ أصدرته المحكمة الدستورية العليا في مصر بحل مجلس الشعب الذي لم يمضِ على انتخابه أكثر من ستة أشهر، والذي تسيطر جماعة الإخوان على معظم مقاعده. وقد اعتبرت انتخابات المجلس المنحل، في حينها، أول خطوة جدية على طريق التحول الديمقراطي بعد ثورة يناير.
وأوضحت المحكمة الدستورية العليا، في معرض تعليلها للحكم بحل المجلس، أن سبب ذلك هو وجود مواد غير دستورية في قانون انتخاباته، نتج عنها إلحاق الظلم بالأعضاء المستقلين، حيث منحت تلك المواد الحق في دخول المجلس، على النظام الفردي للمنتمين إلى الأحزاب السياسية، بما يأخذ من حصة العناصر المستقلة. ووفقاً لرئيس المحكمة الدستورية؛ فإن الحكم أصبح نافذاً، وبموجبه يفقد مجلس الشعب قانونيته. وجاءت موافقة المجلس العسكري الأعلى على هذه الأحكام لاحقاً لتحسم الجدل، ولتغلق أبواب مجلس الشعب، وتوضع مقراته تحت حراسة المؤسسة العسكرية.
لم يتوقف الموقف عند هذا الحد، بل تبعته قرارات أخرى للمجلس العسكري، اعتبرت مقيدة لصلاحيات الرئيس المنتخب، حيث أصدر المجلس إعلاناً دستورياًّ مكملاً نص على استرداد السلطة التشريعية بعد قرار المحكمة الدستورية حل البرلمان، وأنه المختص بتقرير كل ما يتعلق بشئون القوات المسلحة. وأتبع المجلس العسكري ذلك بتشكيل مجلس للدفاع الوطني يترأسه رئيس الجمهورية ويختص بمناقشة الأمور المتعلقة بتأمين البلاد وسلامتها. ويضم المجلس إضافة إلى رئيس الجمهورية 16 عضواً بينهم وزير الدفاع و10 من قيادات الجيش فضلاً عن رئيسي البرلمان والوزراء، ويتخذ قراراته بالغالبية المطلقة لأعضائه الحاضرين وله أن يدعو إلى اجتماعاته من يرى الاستعانة بمعلوماته أو خبرته من نواب رئيس الوزراء أو الوزراء من دون أن يكون لهم حق التصويت. إضافة إلى ذلك؛ أصدر رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير محمد حسين طنطاوي قراراً بتعيين اللواء أركان حرب عبد المؤمن عبد البصير السيد فودة، رئيساً لديوان رئاسة الجمهورية، وقرر تشكيل لجنة برئاسة الجمهورية للشؤون المالية والأفراد برئاسة فودة، وعضوية أربعة من العاملين برئاسة الجمهورية.
وقد تباينت المواقف من هذه الأحكام تبعاً للمصالح والاصطفافات السياسية. فبينما رأى فيها الإخوان المسلمون والقوى التي تحالفت معهم، ثورة مضادة وعودة إلى المربع الأول، وانقلاباً على المنجزات التي حققها الحراك الشعبي؛ فإن أعضاء آخرين، مؤيدين للمجلس العسكري رأوا في هذه الأحكام خطوة صحيحة، لأنها ألغت هيمنة الإخوان المسلمين المطلقة على المجلس، ورفضت دستورية قانون العزل السياسي.
اللافت للنظر، أن هذه الأحكام صدرت قبل أيام قليلة من انتهاء انتخابات الإعادة، وقبل إعلان فوز مرسي برئاسة الجمهورية. وتلك مسألة تثير الكثير من الإشكالات.
السؤال الذي يصدمنا في هذه القراءة يتعلق ابتداء، بحل مجلس الشعب، والانتخابات والنتائج التي أفرزتها. لماذا تأجل الطعن في دستورية هذه الانتخابات إلى ما بعد ستة أشهر من تشكيل المجلس؟، أولم يكن من المنطقي أن تتأكد المحكمة الدستورية العليا من دستورية القوانين التي تجرى على أساسها الانتخابات، قبل المباشرة فيها، ثم يصار إلى إجرائها؟
وهنا تقتضي القراءة، التنويه إلى أن أكثر المتفائلين، لجهة الإخوان المسلمين، لم يتوقعوا فوزهم الساحق في انتخابات المجلس. وقد كشفت تلك الانتخابات عن خواء كبير وواسع للعمل السياسي، بحيث لم تبقَ في الساحة المصرية قوى سياسية منظمة سوى جماعة الإخوان. ولذلك اضطرت بعض القوى السياسية إلى التحالف معهم وإبرام صفقات غير متكافئة لمساعدتهم على الوصول، ولو بشكل جزئي للمجلس. وقد قبل هؤلاء بالحصول على القليل من الفتات، وكان من نتيجة تلك الانتخابات أن المشهد السياسي أصبح محكوماً بثنائية الجيش والإخوان. وهو أمر ربما يكون مقبولاً لدى المؤسسة العسكرية، لو أن جماعة الإخوان اكتفت بالوصول إلى المجلس، ولم تحاول الوصول إلى أعلى مركز للسلطة في البلاد، مركز رئاسة الجمهورية.
واقع الحال؛ أن الوضع أصبح خطراً بالنسبة إلى المجلس العسكري، بعد توقع فوز مرسي برئاسة الجمهورية، وهو ما تحقق فعلاً. إن ذلك يعني، أن الإخوان المسلمين، إذا لم يقم العسكريون بحركة التفاف سريعة حولهم، سيسيطرون على مناحي الحياة السياسية المصرية كافة. فسيتربعون على عرش مجلس الشعب وموقع رئاسة الجمهورية، ويتولون من خلال موقعهم، صياغة دستور مصر، وفقاً لمنطلقاتهم السياسية والعقدية، وهو ما لا يمكن أن يقبل به المجلس العسكري الأعلى .
إن الأحكام التي أصدرتها المحكمة الدستورية العليا، والقرارات التي أعلنها المجلس العسكري آنفة الذكر؛ أعادت الكرة إلى المجلس العسكري، ومكنته من تحقيق أهداف عدة في آنٍ. فالإخوان بعد هذه القرارات لن يتمكنوا من التفرد بالسلطة، وقد أكدت فترة هيمنتهم على مجلس الشعب عجزهم عن مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية التي تمر بها مصر، وتكشف للجمهور انحيازهم الأيديولوجي. ولن يتمكنوا في حالة إجراء انتخابات نيابية جديدة من تحقيق نصر كاسح كالذي حققوه بالدورة التي حكم دستورياً بعدم شرعيتها.
وما سيتبقى لهم، بعد فوز مرسي برئاسة الجمهورية؛ سيكون رئاسة بصلاحيات محدودة، يمنحها العسكريون له. وسيكون الرئيس تابعاً ومضطراً إلى الخضوع للمجلس العسكري في طقوسه وممارساته. وفيما يتعلق بالدستور، فليس من المتوقع أن يترك العسكريون لمرسي الحرية في صياغته، ولن يأتي في بنوده بأي حال من الأحوال ما يحد أو يقلص من هيمنة المجلس العسكري الأعلى.
ستستمر لعبة القط والفأر بين مرسي والجيش، وسيكون الرئيس الجديد بين أمرين أحلاهما مر، إما القبول بهيمنة المؤسسة العسكرية، على صناعة القرار في مصر كما كانت منذ 23 يوليو/ تموز العام 1952، وإما التحدي والقبول بمواجهة مع العسكر، بما يعيد مجدداً إلى المشهد السيناريو الجزائري بين العسكر وجبهة الإنقاذ، أو على الأقل تستحضر صورة الصراع الذي حكم العلاقة بين الإخوان والسلطة في مصر طوال العقود الستة الماضية، وذلك أمر يجعل من فوز مرسي محنة بدل أن يكون منحة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3583 - الخميس 28 يونيو 2012م الموافق 08 شعبان 1433هـ