العدد 1516 - الإثنين 30 أكتوبر 2006م الموافق 07 شوال 1427هـ

«يأجوج ومأجوج» في الخليج

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في التراث «يأجوج ومأجوج» هم قوم كُثر عظيمو العدد، وفي بعض التراث أيضا أن عددهم هو ثمانمئة ألف من البشر، وهو عدد في ذلك اليوم «خلق كثير». واليوم تجاوز الواقع الخيال، ففي اصغر دولة خليجية يمكن أن نرى هؤلاء القوم من حيث العدد على الأقل، لأن اصغر دولة هنا على ضفاف البحر يمكن أن تكون بذلك العدد البشري أو أكثر.

«يأجوج ومأجوج» الحديثون في الاستخدام المجازي يدمرون البيئة ويستنزفون الطاقة، وتكتظ بهم الشوارع، فإن كنت في الكويت أو المنامة أو الدوحة أو دبي أو أبوظبي وحتى مسقط، فأنت تكاد تختنق من زحمة السيارات والناس، بل تستطيع أن تسافر من دبي إلى المنامة بالطائرة في غضون ساعة من الزمن، ولكنك تحتاج إلى وقت أطول وصبرا أكبر في ساعة الذروة للتنقل من جنوب الكويت إلى شمالها، أو من وسط دبي إلى أطراف الشارقة، وتزداد «جرائم غضب» الشوارع، وهي جرائم تقع بسبب الضغط العصبي نتيجة ازدحام المرور، ومنها حوادث مميتة.

والمنطقة كلها من شمالها إلى جنوبها أي منطقة الخليج من المناطق القليلة في العالم التي تتغير خريطتها الجوية الكلية في غضون شهر أو اقل، فإن صورت صورة جوية لإحدى المدن التي ذكرنا وعدت لتصويرها مرة أخرى بعد ثلاثين يوما من الصورة الأولى، فسترى أن الفرق كبير إلى درجة عدم التشابه.

يسير في شوارع مدن الخليج مئة وثلاثون مليون سيارة بحسب التقدير المحافظ، وينفث في شوارعها الرئيسية والخلفية أكثر من ذلك من المكيفات، وتختلط منازلها السكنية تقريبا بمناطقها الصناعية، وتلقى في بحرها فضلات ليست آدمية فقط ولكن صناعية صلبة وسائلة، محايدة وقاتلة، حتى أصبحت بعض الشواطئ لا تصلح لأن تعيش بها الأسماك، وتلوث البيئة البحرية بملوثات ضارة بالإنسان، وكل صباح تجد التحذير بعد التحذير في ما هو منشور في الصحف من خطورة استهلاك ما يجلبه البحر،ويصاب سكانها بأكبر النسب في العالم من أمراض الحساسية المختلفة، وأمراض السكري وضغط الدم وبعض الأمراض الخبيثة التي لا توجد إلا في الدول الصناعية المكتظة بالسكان، وبها أكثر نسبة من الولادات «المشوهة» أو المعتلة. ولم تعد دراسات الارتباط بين العاهات الوراثية والبيئة فعل شطارة أو تنجيم، بل أصبحت عملية علمية محسوبة، فلون العيون ولون الجلد والصلع وأمراض ضعف البصر والتشوهات وغيرها أصبح معروفا ارتباطها بالبيئة والوراثة معا، وكذلك التشوه الخلقي والتخلف العقلي.

هذه ارض «يأجوج ومأجوج» في الخليج، بنايات عمودية وغابات من الاسمنت المسلح تتكاثر، تتجمع حولها أكوام من الحديد التي تسمى سيارات من دون مرائب (كراجات) تختفي فيها، ويعيش غالبية الناس على شريط ساحلي ضيق، ولا توجد مساحات للتوسع الأفقي، وتتحمل البيئة أضعاف ما استعدت له من الضغوط الإنسانية والصناعية، وتستقبل كل مطلع فجر أقواما قادمين من بقاع الأرض الأربع، بعضهم لم يسمع في حياته عن طبيب ولم يعرف ماذا يعني الدواء وما هي شروط النظافة أو ماذا يعني الاستحمام المنظم!

وفي دراسة نشرت منذ سنوات في مجلة «العلوم الاجتماعية» الكويتية، ربط الكاتب بين علاقة التلوث وأسعار المنازل في مدينة خليجية هي مدينة جدة، فقد أصبحت البيانات الإحصائية تشير إلى ارتفاع نسب تلوث الهواء بأكسيد الكبريت وأكسيد النتروجين في المنطقتين الجنوبية والجنوبية الشرقية من مدينة جدة. هذا الارتفاع في نسب تلوث الهواء يرجع إلى وجود مصفاة جدة، والمنطقة الصناعية، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية في تلك المناطق. ونظرا إلى ما لهذه الملوثات من آثار سيئة على الإنسان والبيئة التي يعيش فيها، فإن الدراسة تتبعت أسعار الوحدات السكنية في المدينة فوجدت أن هناك فرقا ملموسا في هذه الأسعار بين الوحدات التي تقع في شمال جدة وتلك التي تقع في جنوبها، فالبيئة هنا تؤثر في الاقتصاد الوطني أيضا. أما تلوث الهواء فإن عددا من مدن الخليج تنبعث من بعض شوارعها روائح تؤثر على البيئة والسكان، ويهجر البعض تلك المناطق إلى مناطق أخرى، ويضطر البعض الآخر إلى أن يعيش تحت وابل من تلك الروائح التي تتسبب في اعتلال الصحة وتعكير المزاج معا. إن الأخبار التي تنقلها الصحف عن الروائح التي تغطي بعض مناطق الكويت ومنها «إصابات وحالات حرجة» نقلتها صحيفة «القبس» على سبيل المثال (26 و27 مايو/ أيار 2002) تظهر من دون شك الحال الخطيرة للتلوث البيئي، الذي تحدثنا عنه ورصدته أيضا بعض التقارير الدولية والمحلية. بعد هذا الإيجاز لا يجادل احد في أننا لا نعيش في ارض «يأجوج ومأجوج» بالمعنى المجازي بأكثر مما يصور التراث أنها مزدحمة وفوضوية.

ومع ذلك كله، فإننا نبني مدنا جديدة ونستورد سيارات جديدة ونستقدم عمالة جديدة مختلفة في اللون والثقافة، ونسلم تلك العمالة «نظافة الشوارع والمستشفيات» وإعداد وجبات الأكل في المطابخ واستخدام الشوارع كسائقين، وحتى تربية الأبناء والبنات وغيرها من الأعمال الحيوية التي يحتاجها شعب «يأجوج ومأجوج»!

إن الكوارث البيئية تسبقها علامات الإنذار، وعلامات الإنذار في الكويت قد تكاثرت في السنوات الأخيرة إلى درجة تثير العاقل وتنبه الغافل، ومن المهم والضروري أن نستعجل جلاء هذا الموضوع الإنساني والصحي والحضاري في الوقت نفسه، وألا تبقى شعوبنا عرضة للتلوث من مختلف المصادر، ومعرضة للأمراض المختلفة من دون أن تعرف عنها شيئا يذكر، عدا تقارير متباعدة وفي بعضها تضارب.

إن الموضوع البيئي هو موضوع الساعة على المستوى العالمي، وهو يجذب كثيرا من الناس حتى السياسيين الجادين. وقد بدأت أحزاب «الخضر» في أوروبا تقوى سياسيا وتشارك في الحكومات لأنها اهتمت بالبيئة وصحة الإنسان. وفي الخليج، الموضوع البيئي أكثر إلحاحا منه في أية بيئة أخرى، والكويت بالذات هي الأكثر تضررا.

لا تتوقف محاربة التلوث على استصدار تشريعات، أو عمل لجان، فهي ممتدة إلى اكبر من ذلك، فأدواتها اقتصادية وتشريعية وتوعوية، وهي مدخلات متشابكة تحتاج إلى أجهزة مستقلة غير خاضعة للضغط السياسي أو الاجتماعي

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1516 - الإثنين 30 أكتوبر 2006م الموافق 07 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً