بدأت 25 دولة مناورات عسكرية في الخليج. والقصد منها كما ذكرت المصادر الأميركية هي التدرب على مكافحة سفن يحتمل أن تكون ناقلة لمعدات قد تستخدم في تصنيع «أسلحة الدمار» أو يمكن استغلالها لتطوير «تقنيات التخصيب النووي». إيران اعتبرت أنها مقصودة بالمناورات التدريبية وأبدت خشيتها من الأهداف الحقيقية منها ووجهت رسائل تؤكد أنها مستعدة للرد في حال تعرض مصالحها للخطر.
هذا جانب من الموضوع. الجانب الآخر يتصل بتلك المعلومات التي تسربت من طريق الإعلام والصحافة وجلّها تشير إلى وجود عزم أميركي/ أوروبي على تشكيل نواة دفاعية تعتمد على دول الخليج لحفظ أمن المنطقة والرد على تلك التهديدات التي صدرت عن تنظيم «القاعدة» ودعت إلى شن هجمات على مصافي التكرير وحاملات النفط.
الموضوع إذاً يتفرع إلى شقين: الأول يتجه إلى التركيز على إيران ويعتمد على فرضيات أمنية. والثاني يركز على «القاعدة» ويقوم على خطر أمني. فالمخاوف الأولى وهمية (افتراضية) والثانية واقعية. ومجموع المخاوف جعلت دول الحلف الأطلسي (الناتو) تتحرك منذ أكثر من سنة لإعادة بناء نظرية جديدة للأمن تقوم على فكرة الاعتماد على دول المنطقة في منظومة الدفاع على أن تتولى دول الحلف مسئولية الدعم الخارجي والتدخل عند الحاجة.
المناورات التي بدأت أمس يمكن وضعها في هذا السياق. فهي تدريبية ودفاعية ولا تستهدف دولة بعينها بقدر ما هي محاولة لتجربة نظرية أمنية جديدة وفحص مقوماتها ميدانياً.
وفي حال صحت هذه المعلومات تكون دول الأطلسي بصدد إعادة النظر في استراتيجية عسكرية اعتمدتها بعد الثورة الإسلامية في إيران والحرب العراقية - الإيرانية وأخيراً حرب الخليج الثانية التي نشبت إثر أزمة الكويت.
قبل الثورة في إيران توجهت الولايات المتحدة في السبعينات إلى اعتماد استراتيجية الدفاع الإقليمي. وتشكلت هذه الاستراتيجية بعد هزيمة القوات الأميركية في فيتنام وانسحابها من منطقة جنوب شرق آسيا. واعتمدت تلك الاستراتيجية على سياسة عدم التدخل العسكري المباشر في الأزمات بسبب رفض الشارع الأميركي هذا النوع من الدور نتيجة الخسائر التي تكبدتها في حرب فيتنام.
مقابل الامتناع عن التدخل المباشر رأت القيادة العسكرية أن الوسيلة الأفضل تقوم على فكرة الاعتماد على قوة إقليمية تشكل رأس حربة للمواجهات المباشرة أو الدفاع عن المصالح الدولية. وبسبب هذه الرؤية قامت واشنطن باختيار إيران (الشاه) تلك القوة الإقليمية القادرة عسكرياً على تحقيق الأهداف المحلية التي تختارها عادة إدارة «البيت الأبيض».
إيران آنذاك كانت من القوى الإقليمية التي اعتمدت عليها واشنطن لضبط الاستقرار الأمني والمحافظة على مصالحها. ولكن الثورة وجهت ضربة سياسية للاستراتيجية العسكرية وأضعفت الموقع الأميركي في المنطقة.
بعد الثورة وقعت الحرب العراقية - الإيرانية الأمر الذي دفع واشنطن إلى تغيير نظريتها الأمنية فانتقلت من تبني استراتيجية الاعتماد على قوة إقليمية فرعية تقوم بوظيفة حماية المصالح الأميركية إلى صوغ استراتيجية جديدة تقوم على فكرة «الاحتواء المزدوج».
فكرة «الاحتواء» كانت غامضة نظرياً ولكنها في التطبيق العملي تبيّن أنها تقوم على ثلاث حركات ميدانياً: الأولى عدم الانحياز إلى طرف في الحرب ومنع انتشار آثار المعارك في بيئة حساسة وغنية جداً، والثانية تطوير قوة دفاع دول الخليج وتشجيعها على تشكيل قوات درع الخليج، والثالثة تعزيز الدفاعات الأميركية والبريطانية في المنطقة من خلال توسيع القوات الأطلسية وتحديث منظومة الخليج العسكرية بالإعلان عن صفقات تسلح بلغت موازناتها بالمليارات من الدولارات.
صمدت نظرية «الاحتواء المزدوج» نحو عقد من الزمن ولكنها تعرضت كثيراً إلى تعديلات جزئية من خلال مراقبة موازين القوى على الأرض. فواشنطن أعلنت منذ الأسبوع الأول من حرب الخليج الأولى أنها ضد الهجوم العراقي على إيران وترفض احتلال أراضي دول الجوار وتتمسك بالحدود السياسية الموروثة عن فترة الاستعمار الأوروبي. وجاء الموقف الأميركي ليشير إلى أن واشنطن ليست بصدد تغيير خريطة المنطقة وأنها تتخوف من هذا التوجه لأنه يقوض استقرار دائرة الخليج ويعرض مصالحها للخطر.
إلا أن الموقف الأميركي تبدل جزئياً حين انتقلت إيران من موقع الدفاع إلى الهجوم، فأخذت واشنطن تميل إلى العراق ولم تعارض تزويده بأحدث الأسلحة والتقنيات الصاروخية المتطورة مضافاً إليها تلك المعلومات الاستخبارية والصور اليومية التي كانت ترسلها الأقمار الاصطناعية.
هذا التغيير الجزئي في نمط السلوك الأميركي لم ينعكس على الاستراتيجية العامة التي كانت تتمسك بالحدود السياسية لدول المنطقة ورفض المساس بالخريطة المتفق عليها في معاهدات دولية أو ثنائية.
أزمة الكويت
واصلت واشنطن سياسة «الاحتواء المزدوج» حتى بعد توقف الحرب العراقية - الإيرانية واستمرت بها إلى أن اندلعت «أزمة الكويت» على إثر اقتحام الجيش العراقي الحدود السياسية وإعلانه عن تغيير خريطة المنطقة معتبراً أن «الدولة الكويتية» هي محافظة ملحقة ببلاد الرافدين.
شكلت هذه الخطوة ذريعة للولايات المتحدة للبدء في تغيير استراتيجية «الاحتواء المزدوج» ميدانياً. فهي اعتبرت أن اختراق الحدود محاولة عسكرية لتغيير خريطة المنطقة من طريق القوة، وبالتالي فإن السكوت عنها يعني بداية تعديل في موازين القوى الإقليمية.
وتحت هذا السقف أرسلت الولايات المتحدة جيوشها (نصف مليون جندي) بهدف إخراج القوات العراقية من الكويت بالقوة. ونجحت واشنطن (جورج بوش الأب) في خطتها حين أقدمت على تحطيم العراق وطرد قوات صدام من الكويت وفرض حصار دولي على نظامه وإبقاء ألوية من الجيش في المنطقة للدفاع عن المصالح الحيوية للاقتصاد الدولي.
أزمة الكويت شكلت مناسبة للإدارة الأميركية لإعادة النظر في الاستراتيجية العسكرية للمرة الثالثة في أقل من ثلاثة عقود. وهكذا انتقلت واشنطن من سياسة الاعتماد على «قوة فرعية إقليمية» وتكتيك «الاحتواء المزدوج» إلى الحماية المباشرة من خلال نشر القوات في المنطقة. ولكن أميركا أوضحت مراراً أنها ليست في صدد العودة إلى الحقبة الفيتنامية والتورط المباشر في الحروب وإنما هي لاتزال متمسكة بخطة الدفاع ومنع القوى الإقليمية من تعريض المصالح النفطية للخطر.
إلا أن إدارة واشنطن عادت وقررت تبديل استراتيجيتها العسكرية مستفيدة من انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء فراغات أمنية وفّرت فرصة لها للتكيف مع خصوصياتها وبيئاتها. وبدأت إدارة «البيت الأبيض» بالانتقال ميدانياً وخطوة خطوة من سياسة نشر القوات للدفاع عن أمن دول الخليج إلى سياسة التورط المباشر في الحروب من طريق اختلاق الأزمات لتبرير الغزوات.
استغل «البيت الأبيض» هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 للإعلان عن استراتيجيته الجديدة التي لم تكن بعيدة في جوهرها عن الحقبة الفيتنامية. وهكذا عادت واشنطن إلى سياسة التورط العسكري المباشر حين قررت احتلال أفغانستان ثم غزو العراق في العام 2003. ولم تتردد في بداية الغزو في الإعلان عن عزمها على تغيير «الخريطة السياسية» للمنطقة.
مضت الآن خمس سنوات على تورط أميركا في حرب جبلية في أفغاسنتان (تورا بورا وقندهار) ضد «القاعدة» و «طالبان»، مضافاً إليها حروب الشوارع في مدن العراق ومحافظاته وبلداته. وفي ضوء هذه التجربة اكتشفت الولايات المتحدة أن قدراتها العسكرية كافية لهزيمة جيوش في حروب نظامية ولكنها لا تملك الإمكانات للإبقاء على مواقعها والمحافظة على الاستقرار والأمن. ويبدو أن إدارة بوش الابن انتبهت إلى هذه المسافة التي تفصل بين تكتيكات الحرب النظامية وسهولة الفوز بها وبين القدرة على الاستمرار في الاحتلال والتحكم بالناس والسيطرة عليهم. فالحرب النظامية سهلة التخطيط والقيادة وواضحة في أهدافها السياسية ومواضعها الجغرافية، بينما المشكلة تبدأ بعد نهاية الانقضاض المنظم على دول المنطقة والإعلان عن الفوز العسكري. فالفوز لا يعني تحقيق الانتصار السياسي لأن السياسة تتصل بالناس (الديموغرافيا) وليس الأنظمة. ولكن واشنطن على رغم مرارة التجربة تظهر علناً أنها لاتزال تراهن على سياسة تغيير خريطة المنطقة.
هذا الدرس كما يبدو بدأ ينتج توجهات جديدة في الإدارة الأميركية وأخذ يؤسس قواعد تفكير قد تؤثر على إعادة النظر بالاستراتيجية العسكرية التي اعتمدت مباشرة بعد هجمات سبتمبر. فهل المناورات هي خطوة تجريبية لاختبار مدى فعالية التكتيكات الجديدة، أم هي مجرد مناورة يقصد منها تهديد أمن المنطقة وليس حماية استقرار دول الخليج؟ حتى الآن تبدو الأمور غامضة ويمكن وضع تكتيكاتها في سياقين متعارضين: الأول الذهاب إلى الحد الأقصى في سياسة التورط المباشر (تغيير الأنظمة والخرائط بالقوة). والثاني البدء في تجميع القوات والاعتماد على قوى محلية لتشكيل قوات إقليمية تأخذ المبادرة الذاتية في الدفاع عن مصالح المنطقة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1516 - الإثنين 30 أكتوبر 2006م الموافق 07 شوال 1427هـ