تكرر في الآونة الأخيرة الكلام عن «الحرب الايديولوجية». الرئيس الأميركي استخدم هذا المصطلح في أكثر من تصريح وخطاب وحدد بوضوح الطرف المباشر المقصود به. ففي مطلع الحرب على أفغانستان والعراق تطرق جورج بوش إلى موضوعة «الحملات» للتذكير بحروب الفرنجة ضد المسلمين. وبعد حين اعتذر وقال إن المفردة مجرد زلة لسان وهو لا يقصد الإسلام كدين في حربه ضد «الإرهاب». وبعد أربع سنوات من الزلة والاعتذار تفوه بوش بكلمة «الفاشية» وربطها بالإسلام حين تحدث عن حربه ضد «الإسلام الفاشي». واعتبرت منظمات حقوق الإنسان انزلاق الرئيس الأميركي إلى هذا المستوى الثقافي في التعامل مع الإسلام خطوة خطيرة سياسيا؛ لأنها تؤسس في ذهن المتلقي الأميركي/ الأوروبي صورة سلبية عن ديانة يعتنقها أكثر من مليار إنسان.
لم يتوقف الهجوم الايديولوجي على الإسلام عند هذه الحدود. فالبابا الجديد في الفاتيكان لم يتردد في انتزاع فقرة من حوار جرى بين مسلم ومسيحي قبل 600 سنة ليستشهد بها كمصدر تاريخي للتهجم على دعوة الإسلام. وحين جوبهت محاضرته بالرفض تذرع بأنه لم يقصد الإساءة للإسلام وان الفقرة التي اعتمد عليها لا تعكس بالضرورة رأيه في الدين الإسلامي.
كلام البابا ليس صاعقة في سماء صافية. فقبله أطلق رئيس الوزراء الإيطالي السابق (بيرلسكوني) مجموعة تصريحات ضد الإسلام والمسلمين اتصفت بالعنصرية والاحتقار، اعتذر عن بعضها وترك البعض الآخر يتفاعل في الشارع الأوروبي. كذلك أطلق رئيس الوزراء الإسباني السابق (ازنار) سلسلة أفكار سلبية اتسمت بالكراهية ضد المسلمين والاستعلاء على الإسلام.
هذه الاهانات المتكررة يمكن أن نقرأ الكثير منها في تصريحات عشرات المسئولين في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا والدنمارك والدول الاسكندنافية وكندا والولايات المتحدة وأستراليا. فالكلام عن الإسلام والمسلمين تحول إلى لغة سهلة ومادة يومية للاستهلاك المحلي. فهناك مئات الكتب والقصص والرسوم والأفلام والمشاهد السينمائية والمسرحية مضافاً إليها مئات المقالات والتعليقات والتحقيقات التي تتطاول على الإسلام والمسلمين من دون احترام للمشاعر أو من دون تدقيق في المعلومات. المطلوب كما يبدو مواصلة الحملة «الايديولوجية» مهما كان ثمنها أو مردودها أو انعكاساتها.
حتى بريطانيا التي كانت تتباهى بنموذجها «الديمقراطي» وتتفاخر بعلمانيتها المختلفة في تكوينها الدستوري/ الثقافي عن العلمانية الفرنسية، تورطت في مجموعة كليشهات متخذة منها عناوين للحض على التفرقة العنصرية والتمييز الثقافي والسخرية من العادات والتقاليد. والمعركة التي بدأها وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو ضد «النقاب» وأيده فيها رئيس الحكومة طوني بلير ليست بعيدة في منطقها السياسي عن تلك «الحرب الايديولوجية» المعلنة منذ أكثر من عقدين ضد الإسلام والمسلمين.
التهجم على معتقدات أكثر من مليار إنسان في العالم واستخدام الاختلاف الثقافي مادة للتهكم والسخرية وتشويه السمعة والتشهير بالناس كلها عناصر تحريضية تشكل في جوهرها السياسي قوة دفع لأدوات الحرب. فالحرب تحتاج دائماً إلى مادة حارقة لتحريك العجلات. والعجلات لا تدور إذا لم تتوافر تلك القوة التي ترفد السلطة أو الدول الكبرى بالذرائع الضرورية لاستكمال الحروب.
«الايديولوجيا» من الأسلحة الثقافية التي تحتاج إليها القوة العسكرية لتبرير الاستمرار في المعارك. والحرب ليست رئاسة أركان فقط وإنما هي إضافةً إلى القيادة العسكرية مجموعة عناصر ميدانية تتكامل لتشكل تلك الصورة العامة.
الكلام عن «الحرب الايديولوجية» ضد الإسلام تكرر في أكثر من مكان وزمان. وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد حض مراراً في تصريحاته على هذه المسألة، معتبراً ان هناك «حرب أفكار» وأن الولايات المتحدة يجب أن تربحها وإلا فستخسر الحرب سياسياً حتى لو فازت بها عسكرياً. والرئيس بوش حذر مراراً من خسارة «حرب الأفكار» واتهم في تصريحاته بعض الكتاب والصحافيين بالضعف أمام «الأعداء». وأحياناً كال اتهامات إلى الصحف ومحطات التلفزة التي تتحدث عن فشل أميركي في الحرب على «الإرهاب» أو في العراق وأفغانستان. بوش يعتبر أن مجرد الكلام عن «فشل» يعني السقوط في مصيدة الأعداء؛ لأن الحديث عن خسارة أميركية يعطي الخصوم فرصة للهجوم وعدم الاستسلام.
حرب باردة
الحملة «الايديولوجية» على الإسلام تحولت إلى معركة دولية كبرى ولم يعد بالإمكان الرد عليها فكرة ضد فكرة أو فقرة ضد فقرة. فالحملة أصبحت شاملة ومتعددة الوجوه ومتنوعة الحقول وتتناول مختلف الموضوعات والشئون من دون وجود حرص على التزام الضوابط الأخلاقية أو المعايير العلمية.
وتُذَكِّر هذه الحملة المفتعلة على كل المستويات الرسمية والشعبية بتلك الحملات الايديولوجية التي قادها «المعسكر الغربي» ضد «المعسكر الشرقي» في نهاية الحرب العالمية الثانية. فتلك «الحرب الايديولوجية» ضد الشيوعية استخدمت كل الأدوات والأساليب واعتمدت مجموعة كتاب وصحافيين وشعراء وروائيين وسينمائيين لخوض حملات تشويه لكل تلك الأفكار انطلاقاً من مجموعة شعارات تتصل بالحرية وحق الكلام والتملك وحرية الاتصال والتنقل.
تلك «الحرب الايديولوجية» امتدت نحو 40 سنة وأكثر واشتملت عشرات الجوانب منها الصحيح ومنها المختلق. فالايديولوجيا في النهاية هي مجموعة أفكار عشوائية تحتمل كل التأويلات والتفسيرات والشروح وتتضمن مواد أولية تعتمد سلوك التأليب والتشهير. فالايديولوجيا الإعلامية ليست دقيقة في معلوماتها وهي ضد العلمية في القراءة والبحث والتحليل والتفكيك. إنها مجرد كلام يعتمد على ثقافة التزوير بقصد التوصل إلى غاية محددة. والغاية إذا كانت نبيلة فهي تبرر كل الوسائل حتى لو لم تكن شريفة.
في النهاية نجح «المعسكر الغربي» في معركته «الايديولوجية». وبعد سقوط «المعسكر الشرقي» انفضح المستور وتبين أن هناك اكاذيب كثيرة أطلقت بقصد تغذية آلات الحرب وتبرير إنتاج مؤسسات التصنيع العسكري. كذلك اعترف الكثير من الكتاب والصحافيين والشعراء والروائيين والسينمائيين بأنهم قبضوا المال عن أعمالهم من أجهزة المخابرات. كذلك كشفت الأجهزة عن وجود مصانع للفبركة وهي كانت تعطي الصحافيين معلومات غير صحيحة مادة أولية لنشرها أو صوغها بأسلوب قصصي تتحدث عن عذابات مفتعلة وأخبار مختلقة غير موجودة في الأصل. ولكن «الايديولوجيا» حولت هذه الحكايات إلى وقائع تشكلت منها مع مرور الوقت مادة تحريض أسهمت في تخويف الناس من هذا الشبح المرعب القابع وراء «الستار الحديد».
«الحرب الايديولوجية» تعتبر بالنسبة إلى الدول الكبرى وسيلة من وسائل القتال وهي ضرورة ثقافية لتبرير الاستمرار في القتال حتى لو تراجع العنف أو توقفت الحروب. فالحرب ضد الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي كانت «ايديولوجية» ولم تطلق فيها قذيفة واحدة وانتهت بانتصار «الغرب» من دون سقوط ضحايا. ويبدو أن المعسكر الأميركي/ الأوروبي يريد تكرار تلك «الحرب» ضد المسلمين من دون انتباه إلى الفارق الكبير بين الايديولوجيا الماركسية والدين الإسلامي ومدى ممانعة الشعوب الإسلامية لتقبل ثقافة هذه الحرب (المختلقة والمزورة). فالمعسكر الاشتراكي كان من السهل اصطياد شعوبه بالدعايات والادعاءات؛ لأن المجتمعات عاشت حياة مقفلة تديرها سلطات مستبدة بينما الإسلام هو دين الناس وليس ايديولوجيا حزبية مفروضة عليهم عن طريق شريحة من نخبة الدولة. وهذا الاختلاف إذا لم تلحظه أدوات الحرب التي تدير الأجهزة والمؤسسات في أوروبا وأميركا فمعنى ذلك أن العالم دخل في نفق طويل ومظلم وستكون المواجهات الدينية أحد أبرز وجوه حرب الحضارات والثقافات التي أعلن مراراً احتمال قيامها.
«الحرب الايديولوجية» على الإسلام تحولت في العقدين الأخيرين إلى إطار عام يشبه تلك «الحرب الباردة» ضد الشيوعية. والآن تحولت إلى حاجة أو سلاح سياسي تستخدمه الدول الكبرى لتحقيق أغراضها الاقتصادية. فالحرب ليست جديدة ولكنها بدأت في السنوات الماضية تأخذ طابعها الثقافي/ الحضاري بهدف ترسيم الحدود بين المصالح ووضع النقاط الفكرية على الحروب العسكرية.
القتال من أجل القتال مسألة صعبة في عالم متداخل. فالذاهب إلى الحرب يحتاج إلى دافع ايديولوجي أو تفسير مقنع لأسباب موته أو انتحاره. والدول الكبيرة التي تملك القوة العسكرية والقادرة على الفوز في معاركها النظامية تحتاج دائماً إلى ذرائع لاقناع الناس أو الناخب أو دافع الضرائب بأن الحرب التي تخوضها دولته «عادلة» والقصد منها ليس قهر الخصوم وإنما مساعدة «الأعداء» على النهوض والتقدم.
البحث عن «عدالة» الحروب مسألة جوهرية في سياسات الدول الكبرى؛ لأن السلاح والتقنيات والأموال والإعلام أدوات مهمة للنجاح ولكنها ليست كافية للانتصار على الآخر. فالحروب تحتاج الى «ايديولوجيا» ومادة خام للتحريض على الخصوم حتى تستمر من دون توقف.
«الحرب الايديولوجية» هي جزء من المعارك؛ لأنها تشكل قوة دفع وتعطي المبرر للدولة الكبرى لتغطية خططها العسكرية التي تلبي في النهاية مصالح الشركات الاحتكارية ومؤسسات التصنيع الحربي. ولكن مثل هذه الحرب خطيرة؛ لأنها تنقل الإنسان من عصر الصراع على التقدم إلى عهود سابقة استخدم فيها الإنسان مادة لغايات لم تكن نبيلة أو شريفة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1515 - الأحد 29 أكتوبر 2006م الموافق 06 شوال 1427هـ