العدد 1513 - الجمعة 27 أكتوبر 2006م الموافق 04 شوال 1427هـ

عرب المحاميد... وسياسات الشركات المتعددة الجنسية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

منذ الجمعة الماضي أخذت حكومة النيجر قرار طرد آلاف العرب ينتمون الى قبائل المحاميد. وجاء القرار بذريعة مكافحة عناصر الشغب والتهريب التي اتهم بها العرب النازحون من القلاقل التي حصلت سابقاً في تشاد. إلا أن مصادر أخرى أكدت أن قرار حكومة النيجر يعود لأسباب سياسية وعنصرية وبإيعاز من شركات متعددة الجنسية تقوم بالتنقيب عن «اليورانيوم» في مناطق غنية بهذه المادة الاستراتيجية. كذلك ترجح المصادر أن تكون سياسة الطرد للعرب من مناطق نيجرية غنية بالمعادن تتصل باستراتيجية أميركية كبيرة تحاول اعادة فرز السكان قبليا وتشكيل دويلات ضعيفة غير قادرة على النهوض من دون الاعتماد على مساعدات دول الغرب وشركاته الكبرى التي تحتكر التنقيب واستخراج الثروات من دون اشراف مباشر من الحكومات المحلية. وهذا الامر ظهر جلياً خلال فترة التمهيد لاحتلال العراق في العام 2003. آنذاك اتهمت ادارة جورج بوش نظام صدام حسين بأنه عقد صفقة مع حكومة النيجر تقضي باستيراد بغداد كمية من «اليورانيوم» بغية استخدامها في تصنيع «أسلحة دمار شامل». وتبين لاحقاً أن التقرير كاذب وأن حكومة النيجر لا علم لها بالصفقة وكذلك ليست على دراية بوجود مثل هذه الثروة الخام في بلادها. فالحكومة المحلية كما اظهرت المعلومات لاحقاً اعطت شركات اوروبية واميركية (سبع شركات) حق التنقيب والاستخراج والنقل مقابل مبلغ مقطوع من دون أن تملك حق الاشراف على مصادر التمويل والتصدير والجهات المستفيدة من ثروات ارضها.

الواقعة تكشف مقدار ضعف الدول الافريقية ومدى عجزها عن استغلال مواردها النفطية وتلك المواد الغنية في انتاج الطاقة. فالقوى المستفيدة من ثروات القارة هي الدول الكبرى التي تحتاج إلى تلك المواد وتملك الامكانات التقنية لاستخراجها. وافريقيا التي تعتبر من اغنى قارات العالم في ثرواتها ومصادرها الطبيعية من مياه وسهوب وأراضٍ خصبة تعيش شعوبها في حالات فقر مقدع وتجتاح الناس سنوياً حالات جفاف وأمراض معدية. وهذا الوضع المأسوي تتحمل مسئوليته الدول الكبرى التي توفر الحماية لتلك الشركات المتعددة الجنسية وتضمن انشطتها الاقتصادية من خلال اتفاقات توقعها حكومات محلية ضعيفة لا تستطيع النهوض بدولها من دون غطاء اجنبي.

المأساة الافريقية ليست جديدة ولكنها تضخمت وانتشرت في العقود الاخيرة بسبب نمو اتجاهات اميركية/ أوروبية تخطط للسيطرة على مصادر الثروات ومنابع المياه ومساقطها وبحيراتها من خلال فوضى امنية تطيح باستقرار الدول وتدفع بجماعاتها الأهلية الى النزوح خوفاً أو بحثاً عن مصادر للرزق والعيش.

بدأ هذا المخطط في ثمانينات القرن الماضي وتطور في التسعينات حين شهدت احواض البحيرات في كينيا وتشاد ومناطق القرن الافريقي وجنوب السودان وإثيوبيا حالات اقتتال اهلي اتخذت شتى الالوان من تصفيات قبلية بين التوتسي والهوتو في رواندا (نحو مليون قتيل) الى انقسامات عرقية واقوامية ودينية وجهوية في الصومال وإثيوبيا وجنوب السودان وصولاً الى غربه (دارفور) على حدود تشاد.

كان الهدف من اشعال الحروب الأهلية الداخلية والجوارية والحدودية بين الدول تسريع عمليات تفريغ المناطق الغنية بمواردها من سكانها لتسهيل انشطة الشركات المتعددة التي تريد استكشاف مناجم الثروات وحقول النفط. وهذا ما نجحت به جزئياً حين توصلت الشركات الكبرى الى وضع تصوراتها عن الامكنة الغنية في موادها ومواردها وتبين لها أن الخط الممتد من غرب افريقيا (موريتانيا والسنغال وغينيا) الى الشريط الممتد تحت خط الصحراء الكبرى (بوركينا فاسو، النيجر، شمال نيجيريا، تشاد، اقليم دارفور السوداني) وصولاً الى شرق افريقيا (السودان واريتريا، وشمال الصومال) كلها مناطق غنية بالمعادن والثروات النفطية ومناجم اليورانيوم.

هذه الثروات الطبيعية تفسر الى حد كبير ذاك الاضطراب السياسي الدائم الذي تعرضت له كل الدول الواقعة على الخط الممتد من غرب القارة الى شرقها. وبسبب وجود تلك الثروات قررت الدول الكبرى الحامية لمصالح الشركات المتعددة الجنسية تدفيع شعوب القارة ثمن أطماعها السياسية والاقتصادية.

طرد ونزوح واقتتال

إلا أن عمليات الطرد القسري أو النزوح البشري/ القبلي الناجم عن الاقتتال الأهلي بهدف تفريغ المناطق الغنية من السكان بدأت وتيرتها بالارتفاع وسببت حالات قلق للدول مضافاً اليها جرجرة الحكومات الى اتخاذ سياسات قاسية لضبط امنها وفرض الاستقرار ومنع الفوضى كما هو حاصل الآن على الحدود التشادية - السودانية (دارفور) أو الحدود التشادية - النيجرية. والقرار الذي اتخذته حكومة النيجر ضد قبائل المحاميد العرب ليس بعيداً عن تلك الفضاءات الدولية التي اسست القاعدة السياسية لتلك الاضطرابات على طول خط الدول الواقع تحت الصحراء الكبرى.

هذا الخط التجاري الذي كان يربط غرب افريقيا بشرقها تميز تاريخياً بالنمو والازدهار وتشكلت على ضفافه محطات عبور لقوافل الحجاج والتجار التي كانت تسلك هذا الممر التقليدي لتأدية الفريضة الدينية. ويعتبر هذا المعبر من الخطوط التجارية - الدينية الإسلامية الذي كانت تسلكه القوافل على امتداد قرون. وبفضله تشكلت حواضر إسلامية ومراكز عبادية ومحطات للاستقرار والراحة شجعت سكان المناطق على التزاوج والمصاهرة بين القبائل. ولعب الإسلام في هذا المعنى دوره الحضاري التاريخي في تشكيل دول إسلامية أسهمت في نشر الدين في العمق الإفريقي وقامت في الآن بتحصين المنطقة واتخاذها خطوط دفاع امامية لحماية الشمال الإفريقي (دول المغرب) وصولاً إلى البحرين الأبيض والأحمر.

هذا الممر التاريخي (التجاري/ الديني) تعرض منذ القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر إلى الدمار والخراب وتجفيف ينابيعه التجارية من خلال تعطيل التدفق البشري وحركة الانتقال من غرب القارة إلى شرقها لتأدية العمرة وفريضة الحج. وبسبب هذه الحال تراجعت أهميته الحضارية/ الثقافية وانهارت معالمه وحواضره الإسلامية التي لاتزال بقاياها ظاهرة في فن العمارة وبناء المساجد. والتراجع التاريخي لأهمية هذا المعبر (الممر التجاري/ الديني) جاء على تدرج. إلا أن دور دول أوروبا في تقطيع أوصاله كان السبب الرئيسي في انهياره التجاري والثقافي. فهذه الدول التي توصلت الى اتفاقات على تقاسم النفوذ وتوزيع المستعمرات في معاهدة فيينا في العام 1815 (عصر المستشار النمسوي مترنيخ) تفاهمت على بسط نفوذها السياسي على تلك المناطق الغنية التي كانت تعتبر تقليدياً حوض حضارات وحديقة خلفية للدول الإسلامية في الشمال أو الوسط أو الغرب من القارة الإفريقية.

إضافة إلى تقطيع أوصال الممر/ المعبر وتمزيق شعوبه وتفكيك قبائله ودفعها للنزوح أو الهرب أو التجمع في أمكنة خارج مجالها الحيوي تعرض غرب إفريقيا إلى غزوات أوروبية احترفت هوايات السلب أو اسر الناس ونقلهم للبيع في أسواق الرقيق التي عرفت الازدهار بعد اكتشاف أوروبا القارة الأميركية. وأسهمت غزوات الرقيق في شرذمة الأسر وتفريغ القبائل من قواها الشابة والمنتجة وأسرهم للعمل بالسخرة في الأراضي المكتشفة وراء الأطلسي. وزادت سياسة الاستعباد والرق من مشكلات القارة الإفريقية إذاً أسرعت في انهيار الكثير من موارد الرزق والقوى العاملة والمنتجة فتدهورت الحياة العامة وانزلقت الشعوب من مستوى متقدم في العلاقات الاقتصادية والثقافية إلى درجات متدنية من الانهيار الناجم عن عدم توافر قوى سكانية كافية لاستغلال الثروات الطبيعية.

كل إفريقيا تعرضت إلى هذا النوع من التقويض المنهجي والمبرمج على امتداد ثلاثة قرون. ولكن هذا الممر الديني/ التجاري كان الأكثر تضرراً بسبب سياسة تقطيع الأوصال التي لجأت إليها دول أوروبا من خلال إنشاء دويلات مصطنعة على طول هذا الخط الممتد الذي يربط غرب إفريقيا بشرقها.

تحطيم هذا الطريق التجاري وتدمير خطوط المواصلات اضعفا كل القبائل والشعوب التي اعتمدت طويلاً في معيشتها ورزقها على ازدهار حركة القوافل وتبادل السلع والخبرات في تلك المحطات/ المراكز. فهذه الحركة من الغرب إلى الشرق والعكس تقلصت وبسبب جمودها تراجع دور الحواضر المسلمة وتهمشت مع الزمن.

الآن وبعد ذاك التفكيك والتقطيع انتقلت الشركات المتعددة الجنسية إلى سياسة اخطر وهي تفريغ المناطق الغنية من سكانها من خلال إثارة القلاقل والفوضى الأمنية لإجبار القبائل على النزوح خوفاً أو بحثاً عن رزق. وهذا ما حصل لقبائل المحاميد في تشاد فهي لجأت مؤقتاً إلى النيجر وتتعرض منذ وقت إلى ضغوط من الحكومة المحلية لإجبارها على العودة إلى تشاد.

هذه السياسة ليست جديدة ولكن خطورتها في هذا الوقت أنها تشعل الحروب وتؤجج مشاعر الكراهية بين القبائل، كذلك تولد الأحقاد العنصرية ضد مجموعات بشرية من أصول عربية تأقلمت مع مناخ البلاد وتوطنت وتصاهرت وتزاوجت مع الأيام مع شعوب ذاك الممر التجاري - الديني الذي كانت تسلكه القوافل لقرون من الزمن. فهؤلاء أطلق عليهم ابن خلدون في تاريخه مفردة «العرب الافاريق» أو «الافاريق العرب». فهؤلاء العرب الأفارقة أو الأفارقة العرب هم قبائل عربية نزحت من الجزيرة واليمن وبلاد الشام واندمجت مع القبائل المحلية وانصهرت لتولد ثقافة مشتركة.

النهاية محزنة وتتحمل مسئوليتها تلك السياسات الأوروبية ثم الأوروبية - الأميركية (شركات متعددة الجنسية)، إذ لعبت دورها في تقويض معبر حضاري نجح تاريخياً في صهر الشعوب ودمج الثقافات

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1513 - الجمعة 27 أكتوبر 2006م الموافق 04 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً