ادعيت في مقالين سابقين ضرورة التفريق بين المضمون الديني الثابت وبين المضمون التنظيمي المتغير، والذي قد يحدده النص ولكنه لا يمثل السقف الأعلى في كل العصور بل يكون مؤطراً بالبعد الحضاري المعاصر له، وليس مطلقاً، وذلك لأنه لا يمثل تشريعاً دينياً فوقياً، بل هو عمل ميداني يسعى الى استغلال الوسائل المتاحة في عصره لغاية التوصل الى ذلك المبدأ المتعالي، فالمبدأ الإلهي بذاته مترفع على الظرف البشري، ولكن تطبيقه الميداني يستحيل أن يكون كذلك، لأنه يراد له أن يكون في سياقه، ونسقه، فكيف يتعالى عليه؟
وتذكرني هذه القضية بقول الله تعالى «ولو جعلناه ملكاً لجعلناه بشراً وللبسنا عليهم ما يلبسون» (الانعام: 9)، فلكي يكون النبي فاعلا ومتفاعلا مع الناس وداخل دائرة التفهيم والتفاهم بالنسبة اليهم يجب أن يكون من نوعهم، وغير متعال على بشريتهم «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى الي» (الكهف: 110) فكذلك العمل الميداني في الواقع الخارجي يجب أن ينسجم مع طبيعة حركة التاريخ، وإلا خرج عن كونه جزء منه، ولم يحقق فيه الفاعلية المرجوة.
ومن هنا نقول إن المصلحين يتقدمون بالمجتمعات خطوات مهمة نحو التغيير، ولكن يستحيل عليهم أن يقفزوا على مقتضيات التاريخ مهما كانت آفاقهم واسعة وهممهم عالية، وليس الأنبياء والمعصومون استثناء من هذه القاعدة فالمعصوم (الشخصية الكاملة إنسانياً) يستخدم الحد الأقصى المتاح حضارياً واجتماعياً في زمانه لسلوك الطرق الأقرب الى مبادئه العالية ، ولكن يستحيل عليه أن يخترق الممكن.
ولذلك نجد ان الأنبياء والمعصومين يتعاملون - طول تاريخهم - مع الحياة العملية بالطرق البشرية المتعارفة، ويجري عليهم ما يجري على غيرهم من عوامل القوة والضعف وليس ذلك لقصور فيهم بل القصور في الأرضية الثقافية والحضارية للمجتمع الذي يتحركون فيه، حيث لا يمكن التعامل معه الا في حدود أفقه الطبيعية القابلة للفهم والإدراك بالنسبة إلى الناس العاديين، والنتيجة من كل ذلك هي ثبات المبادئ وحركية التطبيقات الميدانية لتنسجم مع سيرورة التاريخ.
ومن التطبيقات المهمة لهذا التنظير قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه في نفسه مبدأ يمثل حاجة دائمة ثابتة ما دام النظام البشري قائما، ولكن من الطبيعي جدا أن نتحدث عن تطوير آلياته وتطبيقاته الميدانية فقد بات من الواضح جدا بأن الوعظ المتمثل في الخطبة أي الأمر والنهي اللسانيين لا يمثل في عالم اليوم سوى مساحة ضئيلة في مجال مكافحة الفساد، وصار ممكنا القول إن من الابتذال والسطحية الساذجة إرجاع سبب تفشي المنكرات الى قصور أو تقصير الوعاظ الدينيين في القيام بأدوارهم المنوطة بهم.
وبدلا عن ذلك فقد تركزت الأنظارعلى معالجة الأسباب المادية لمظاهر الإنحراف، والتي من أهمها المشكلات الأسرية والفقر والقنوط من توافر الحياة الكريمة، وهذا ما يلقي مسئوليات خطيرة على الجهات الرسمية والشعبية المطالبة بالسعي الى رفع معدلات التعليم والعمل في مجتمعاتها وتتحمل الجهات الرسمية الجزء الأكبر من عبء المسئولية، وذلك لأنها الطرف الذي يمسك بالجزء الأوفر من مقدرات الأمة وأسباب قوتها وضعفها.
وكذلك أصبح من الأهمية بمكان العناية بآليات البحث النفسي لأجل التعرف الدقيق على خريطة الإنسان الذي نكون في صدد التعامل معه إذ قررت الأبحاث الإنسانية بأن العوامل النفسية هي المسئول الأول عن الإنحرافات السلوكية عادة، ولذلك، صار التأهيل النفسي للفرد المذنب حقا طبيعيا له كما إن من حق المريض أن يوفر له العلاج.
وهكذا نجد كيف تطورت النظرة الى الإنسان المرتكب للذنب، وتطورت بالتالي النظرة الى آليات التعامل معه وصار الاقتصار على عقوبة المذنب دون تأهيله ظلما له، وتضييعا لحقه! وقد لا يكون هذا محل اعتناء أو التفات لدى الإنسان القديم وقد لا يكون أيضا واضحا في النص (وإن كان قابلا للاستفادة من مجموع النصوص بنحو المفاد الالتزامي) ولكنه لا يضر بمكانته أبدا مادام هذا الحق يرتبط بتطبيقات ميدانية تخضع لسيرورة تاريخية وليس على النص أن يلاحقها الا في حدود ما يقتضيه التطبيق الميداني في زمانه، وهذا من قبيل ما يقال بأن مقتضى العدل هو استقلال السلطات الثلاث، فلا يضر بالنص أن لا يدل عليه صريحا فهو ليس سوى آلية تطبيقية للتوصل الى المبدأ الأعلى الذي هو العدل، وخلو النص الديني من هذه الآلية التطبيقية لا يخل بصلاحيته لكل زمان ومكان، لماذا؟ لأن هذه الآلية تخضع لمنطقة الفراغ التي جعلها النص الديني مفتوحة للسيرورة التاريخية، وإذا تعرض النص لشيء منها فهو في هذه المساحة لا يعبر عن المضمون الديني الثابت الا بلحاظ غايته، ومدلوله الالتزامي، وليس المطابقي وذلك نظير قول النبي «لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر» (وسائل الشيعة الباب 3 من أبواب حكم السبق والرماية) فالمصاديق المذكورة فيه باتت لا تمثل شيئا تجاه المقصود الأصلي وهو الاستعداد والقوة ولذلك من الممكن استبدالها بمصاديق أخرى تناسب العصر وتكون أقرب وصلة الى الغاية الدينية.
ويجرنا هذا البحث الى قضية إحياء ذكرى العظماء ومآثرهم فهي تخضع الى مبدأ ثابت وهو الاعتبار بالذكرى وإيحاءاتها وذلك شيء لا يتحول مع الزمان والمكان ولكن ماذا عن طرق ووسائل الإحياء؟ وما هو مسوغ الجمود على الوسائل القديمة ذاتها وإعطائها طابعا تقديسيا في حال إن آليات التعبير لا تبقى على حالها بل هي في حال تطور دائم فقد انبثقت طرق جديدة للدلالة على التفاعل مع الحدث المحتفى به أكثر توافقا وانسجاما مع النسيج الثقافي المعاصر وأقوى في الدلالة وأقدر على إبلاغ الموقف من الطرق التقليدية القديمة، والتي قد تضائل التأثير الدلالي في مساحة كبيرة منها نظراً إلى اضمحلال السياق الثقافي الذي نشأت فيه.
ويدخل في سياق هذا البحث أيضا العناية بأسباب التوافق النفسي، وما لذلك من تأثير بالغ على صلاح الإنسان الذي هو غاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق ذلك يكون بمعالجة أنماط التطرف والغلو التي من شأنها أن تصير الإنسان الى حال مشوهة وغير مستوية وتؤدي به الى انحرافات سلوكية فرديا واجتماعيا، ولذلك أمكن القول بأنه يخطئ أولئك الذين يتمادون في دفع المجتمع نحو العقلنة الى حد إضعاف روح الإقدام وعزيمة التغيير فتتحول العقلنة عندهم الى حال من الكساح والشللية وكذلك في الدرجة من الخطأ أولئك الذين يتمادون في أدبيات الحماسة والفخر الى مستوى الاندفاع نحو التصعيد مع كل الأطراف من دون عمل حسابات دقيقة.
ولأن العقل والعاطفة يشتغلان ضمن منظومتين مختلفتين فحيث يقوى أحدهما يضعف الآخر، وكلما غلب الجانب الاحتفالي على الثقافة ضعف الجانب النقدي العقلاني فيها والعكس صحيح، ومن هنا تبرز خطورة التمادي في المظاهر الاحتفالية لدين أو دنيا بدعوى أنها خير نستزيد منه ما قدرنا على ذلك سبيلا، وذلك لأن كمال التركيبة البشرية لا يتم الا بتعادل القوى الدخيلة في كينونتها، فصحيح إنه لا مناص عن مستوى معقول من الممارسة الشعائرية، توصلا لتحقيق الشعور الذي لا غنى عنه لضمان التوازن النفسي والشبع الروحي لدى الإنسان، ولكن من المهم أيضا الحذر من أن تتحول الثقافة العامة الى ثقافة صياح دائم‡
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1512 - الخميس 26 أكتوبر 2006م الموافق 03 شوال 1427هـ