كانت الموسيقى ولاتزال مصدر اختلاف في التعامل معها. كذلك تشكل الموسيقى نقطة لقاء بين ثقافات لا تجتمع إلا على الإيقاع. فالإيقاع في النهاية لغة صوت. والأصوات حين تتناغم تأتلف القلوب. وحين تصاب الأصوات بالنشاز يدب الخلاف.
الموسيقى إذاً ثقافة غير محكية ولكنها تستخدم لغة الجسد والإيقاع لربط الناس أو ترسيم حدود الاختلاف في الاذواق. ولذلك شكلت الموسيقى عند الكثير من الشعوب هوية لعبت دوراً دفاعياً لحماية الناس من الاضمحلال أو النسيان. كذلك أسهمت الموسيقى في نقل المشاعر وتقريب حضارات إلى بعضها من خلال تصدير أدوات النغم أو ربط المشاعر بإيقاعات إنسانية تعكس الانفعالات وتعطيها تلك الأبعاد في الحركة أو التعبير اللطيف أو العنيف.
هذه المقدمة لابد منها لفهم ذاك الشريط السينمائي الذي يعرض الآن في سينما السيف. فالفيلم لا يتحدث عن ثقافات شعوب وإنما عن اختلاف المشاعر الموسيقية في مجتمع واحد وثقافة عامة تشترك فيها الطبقات وتتناغم وتختلف في آن.
«استلم المقدمة» هو عنوان الفيلم. والعنوان يشير إلى التنافس ولكنه أيضاً يدل على امكانات التفاهم على إيقاع مشترك في حال أخذ المسافات في الاعتبار وتم ربط الأجيال في سياق جمالي واحد يتخذ من لغة الجسد ذاك النغم المطلوب لتنظيم الائتلاف.
الشريط السينمائي يبدأ بالحديث عن استاذ موسيقى يعلم الرقص لأبناء العائلات الارستقراطية في نيويورك. الاستاذ متخصص في تدريس الموسيقى وتعليم الرقص للهواة ولكنه يصاب بنوع من الملل والضجر من تلك العلاقات الباردة الخالية من المشاعر والأحاسيس. فأبناء تلك العائلات يتعلمون الموسيقى والرقص دفعاً للضجر وتقطيعاً للوقت. فهذا الفن ليس حاجة وانما مجرد ترف يتم استعراضه ببلادة في صالونات الاغنياء عندما يلتقون في مناسبات عائلية أو عابرة.
يبدأ الفيلم من معهد لتعليم الرقص والموسيقى في منطقة غنية تميل إلى الاستماع إلى تلك الانغام التي تستعرض في تلك الصالونات. ولهذا السبب يطغى على موسيقى الصالونات ذاك الإيقاع المهندس والمبرمج والدقيق في تحركاته وتنقلاته.
موسيقى الصالونات نغمات راقية تستمع إليها طبقات «راقية» في موقعها الاجتماعي وتعتبر أن الضجيج والصخب والأصوات العالية تنتمي في نغمها إلى تلك الطبقات الفقيرة والطائشة التي لا تحترم القانون ولا الإيقاع.
هذا الاستاذ «النبيل» يتعرض إلى مصادفة تقوده إلى إعادة التفكير بأسلوبه. والمصادفة هي حادث مرور عرضي يصاب به أحد تلامذة معهد الفقراء في حي شعبي في نيويورك. السيارة تصدم الشاب إلا أن الأخير يقع ارضاً وينهض ويواصل الركض وكأن شيئاً لم يحصل.
الاستاذ «النبيل» يتقصى الحادث ليصل إلى تلك المدرسة التي تضم ابناء العائلات الفقيرة. ويبدأ بالبحث عن مكان له لتدريس التلامذة لغة الموسيقى الراقية الناعمة الهادئة. ويكتشف الاستاذ «الارستقراطي» ان هناك هوة تفصله عن هؤلاء الطلبة الذين يتميزون بالحيوية والحياة والنشاط ولكنهم يحتاجون إلى ثقافة تهذب طباعهم.
ومن خلال اكتشاف الاستاذ لهذه الهوة يبدأ بتجسير العلاقات بين البرودة الارستقراطية والحيوية الفقيرة وبين الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة... والجسر الذي وصل بين الطرفين اعتمد على الموسيقى والإيقاع وحركة الجسد.
بداية التجربة كانت قاسية وعنيفة. فالاستاذ الارستقراطي اعجب بحيوية ونشاط وليونة هذه الفئة من التلامذة الفقراء والتلامذة وجدوا في نبل الاستاذ أسلوب نفاق ووسيلة للتحايل عليهم.
ولكن عناد الاستاذ واصرارة على مواصلة الرحلة على رغم الصعاب جعله يبحث عن مخرج للتناقض بين الطرفين. فهو يريد تقريب هؤلاء إلى القانون (الإيقاع الموسيقي) وكسب حيويتهم ونشاطهم لهذا النوع من الالحان الذي يستعرض فقط في الصالونات للرفاهية وليس للحاجة وهم يترددون في القبول بهذا النوع من الأغاني المضجرة التي تحرك الاقدام على إيقاع مدروس ولا تحرك الجسد وتدفعه نحو الانطلاق والفوضى الخارجة على الإيقاع والقانون.
وبعد طول صبر ومعاناة يكتشف الاستاذ النبيل بالتوافق مع تلامذته المشاكسين ان أفضل الطرق للجمع بينهما هو الدمج بين موسيقى الصالونات وموسيقى الشوارع. فالدمج يشكل منطقة وسطى يلتقي عليها الطرفان على قاعدة صلبة ومشتركة تترك لكل فريق التحرك ضمن مجاله.
وهكذا كان. فالاستاذ اكتسب الطلبة وجذبهم إلى حقل الموسيقى التي تدل على نهج سوي واحتراف والتزام بخطوات قانونية ومبرمجة. والطلبة نقلوا إلى الاستاذ موسيقى الشوارع وما تحمله من صخب وضجيج وعنف. وبين مذاق الصالونات (الباردة والمنظمة) وفوضى الشارع المتدفق بالحيوية والنشاط تشكلت فرقة مشتركة دخلت في منافسة مع فرق محترفة ونالت في نهايتها الفوز أو على الاقل استحسان تلك «الطبقة» من الأثرياء التي كانت عادة تصاب بالغثيان والقرف حين تستمع إلى موسيقى الفقراء.
«استلم القيادة» فيلم جميل في رسالته. فهو يريد التوفيق بين اختلاف مذاق الاجيال، والجمع بين المتناقضات، وتقريب النظر بين إيقاع يعتمد القانون وآخر يخالف القانون في إيقاعاته. فالشريط السينمائي في النهاية يريد ان يؤكد ان الموسيقى ثقافة، والثقافة فن، والفن لا هوية طبقية له فهو يصلح لكل الأجيال ويسير وفق مسارات تخاطب الإنسان كأنسان سواء جاء من الشوارع الفقيرة أو من الصالونات الارستقراطية الجميلة.
وهذا ما نجح الاستاذ النبيل في تحقيقه عندما نقل موسيقى الصالونات إلى الاحياء الفقيرة وأعاد نقلها من الشوارع بغلاف شديد الحيوية ويضج بالحياة التي تحتاجها تلك العائلات التي تشعر بالضجر والملل نتيجة برودة مفتعله لا مكان لها في عالم الإيقاع والنغم
العدد 1510 - الثلثاء 24 أكتوبر 2006م الموافق 01 شوال 1427هـ