انقضت سنوات أربع عجاف في تاريخ الحراك السياسي في البلاد، والجميع يترقب أن تكون السنوات الأربع المقبلة سنوات سمان، أو على أقل تقدير ألا تكون عجفاء كسابقتها المنصرمة. وبعد أن أعلنت قوى المعارضة مشاركتها في المعترك الانتخابي القادم فإن قواعد كثيرة من اللعبة السياسية ستتغيّر. إلا أنه من التسرّع أن يتوهم أحد أنه قادر على إحكام سيطرته على جملة المعطيات التي ستفرزها هذه التجربة. والأيام ستثبت هذا الكلام، فلا قوى المعارضة التي أعدّت العدة للدخول بقوة إلى البرلمان القادم تستطيع إحكام سيطرتها على هذه المعطيات أو التحكم في مساراتها، ولا حتى الحكومة بكل ما تمتلكه من قوة منتشرة ومتعددة الأنواع، ومن هيمنة على خيوط اللعبة التي رسمت هي قواعدها بإحكام مشهود. وليس في كلامي هذا تناقضاً؛ لأن الحديث عن لعبة أحكمت قواعدها شيء، والحديث عن إحكام السيطرة على معطيات السنوات الأربع المقبلة شيء آخر.
لكل لعبة قواعدها، وإذا سلّمنا بوجود قواعد للعبة السياسية عندنا، فإننا نتقدم خطوة أخرى باتجاه الفهم الصحيح للوضع السياسي العام ومحدّداته الظاهرة والخفيّة. والقول بوجود قواعد للعبة السياسية يفترض أن الحراك السياسي لا تتم بصورة تلقائية أو اعتباطية، بل هو يجري ضمن محددات مرسومة بعناية بالغة بقصد التحكم في سير اللعبة ومخرجاتها المتوقعة، وذلك لكيلا تخرج هذه المخرجات عن السيطرة وتسلك مسارات شاذة وغير مرغوبة.
والحق أن هذه المحددات قد جرى رسمها بهذه الطريقة تحسباً لبرلمان تشارك فيه قوى المعارضة مشاركة حقيقية. هذه حقيقة بديهية يدركها الكثيرون، وهي الحقيقة التي تفسّر كل التحركات الاستباقية التي جرت في العام 2002، التي تعزّزت بتحركات إضافية في العام 2006. وبتعبير آخر، فإن النظام الانتخابي والعمل النيابي مصمم بطريقة محكمة تستوعب وجود قوى المعارضة داخله. ولهذا السبب نفترض حسن النية في السلطة وحيادها الكامل تجاه هذه العملية ومجرياتها؛ لأنها لن تخرج عن محددات مرسومة سلفاً وتحكم اللعبة بكليتها. ولهذا السبب كذلك نفترض أن هناك مؤشرات عدة توحي أن الموقف الرسمي من الانتخابات القادمة يبعث على الريبة وعدم الاطمئنان؛ وإلا فإذا كان النظام الانتخابي والنيابي مصمم بطريقة محكمة ومحكوم بمحددات صارمة، فما الداعي لكل تلك التحركات الإضافية التي ظهرت في العام 2006؟ وكيف يمكن تفسير شكوك قوى المعارضة المبررة من تحركات خفية ومعلنة تستهدف تزوير إرادة الناخبين حينما كانت إدارة العملية في قبضة الجهاز المركزي للمعلومات؟ فإذا كان النظام مصمماً ليستوعب قوى المعارضة فما الذي طرأ لتظهر تلك التحركات والمحددات الإضافية؟ قوى المعارضة تفسّر كل هذا على أنه تراجع في المشروع الإصلاحي، وآخرون يفسرون ذلك على أنه تعديل على نظام أثبتت السنوات الأربع، على ما بها من عقم، أنه يشكو من بعض الثغرات التي قد تسبب اضطراباً وفوضى في حال قرّرت قوى المعارضة الدخول إلى البرلمان.
وعلى العموم فإن هذه المحدّدات على نوعين: محددات أساسية، وأخرى احتياطية. فالمحددات الأساسية تتمثل في التوزيع الحالي للدوائر الانتخابية، والقيود الدستورية التي تحدد عمل مجلس النواب، واللائحة الداخلية لمجلس النواب، ووجود مجلس الشورى المعين. وأما محددات اللعبة الاحتياطية فتظهر في التعديلات الأخيرة التي أجريت على قانون مباشرة الحقوق السياسية، والتصويت الإلكتروني، والمراكز العشرة العامة، وتصويت حديثي الجنسية، واللجنة الأهلية المؤلفة رسمياً لمراقبة الانتخابات.
هذه المحددات الأخيرة محددات احتياطية لأنها لا تحكم اللعبة نفسها، ولهذا فقد يجري التخلي عنها اضطراراً أو لإنجاز مآرب أخرى، وهذا ما حصل حين ألغي التصويت الإلكتروني اضطرارياً، وهذا ما حصل حين جرى التخلي عن اللجنة الأهلية /الرسمية لمراقبة الانتخابات حيث فتح الباب أمام الجمعيات الأهلية لمراقبة الانتخابات دون إشراف رسمي، وهذا ما يمكن أن يحصل حين تلغى المراكز العشرة العامة بمرسوم ملكي.
ومع هذا فإن هذه المحددات الاحتياطية بالغة الأهمية، لكونها تمثل مجموعة أدوات إضافية في «خزان اللعبة الاحتياطي»، وهي أدوات جاهزة للاستخدام في أية لحظة يشعر القائمون على اللعبة أنها في سبيلها إلى الانحراف عن مسارها المرسوم لها. ولتقريب الصورة أكثر فإن هدف هذه المحددات الاحتياطية هو تعزيز قدرة السلطة على إحكام قبضتها على سير العملية الانتخابية وعلى أداء مجلس النواب وعلى مخرجات العملية بصورة إجمالية. ثم إن هذه المحددات قد يجري تفعليها بقصد تشويش السياق العام وإلهاء الفاعلين السياسيين المقصودين من أجل تحقيق مكاسب متعددة. وهو الأمر الذي يهدّد بتدهور حالة الاستقرار العام في قواعد اللعبة وتحولها من لعبة إلى تلاعب. مما يعني الدخول في أزمة سياسية جديدة.
ومع هذا فإنه من غير الصحيح أن نفترض أن هناك قوة قادرة على إحكام سيطرتها بصورة كلية على مخرجات أي نظام، فمع كل هذه المحددات فإن الحكومة وقوى المعارضة مقدمون على تحديات من نوع جديد.
وأتصور أن الرهان ليس على قيمة المشاركة بحد ذاتها، بل على ما يمكن تسميته بـ «فائض القيمة» في المشاركة، وفائض القيمة هي جملة النتائج غير المتوقعة التي ستفرزها الممارسة النيابية. و»فائض القيمة» هو شيء ستخلقه مشاركة قوى المعارضة إلا أنه يتجاوز توقعاتها ومقاصدها الواعية في الوقت ذاته. وبحسب هيجل فإنه عادة ما «ينتج عن أفعال الناس شيء آخر غير ما يتوقعون أو ينجزون، شيء آخر غير ما يعرفون وغير ما يريدون مباشرة. إنهم يحققون مصالحهم، لكن يحدث بجانب ذلك شيء آخر مضمر في الداخل، شيء لا ينتبه إليه وعيهم، ولم يكن في حسبانهم». هذا الشيء المضمر داخل الفعل والممارسة هو «فائض القيمة». وعلى هذا الفائض يجب أن يكون رهان الفاعلين السياسيين الذين دخلوا اللعبة السياسية وهم على علم بمحدداتها وقواعدها. قد تنجز قوى المعارضة بعض ما تريد من إحراج الحكومة ومجلس الشورى. ومن المؤكد أن مشاركة هذه القوى ستخلق حراكاً اجتماعياً غير مسبوق في البلاد، وعلى إثر هذا ستتحرك الحدود الصارمة التي فرضت تطابقاً مزمناًً ومريباً بين الطائفة والطبقة الاجتماعية، إذ سيكتب لبعض أبناء الطبقات المهمّشة أن تصعد بوضعها الاجتماعي ومستواها المعيشي.
إلا أن كل هذه مخرجات يستوعبها النظام، ومتوقعة بحسب المحددات السابقة التي تحكم عملها. فهذه هي «القيمة» الفعلية للمشاركة، إلا أن الرهان على «فائض القيمة»، و»فائض القيمة» هذا قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً ومزلزلاً. ولهذا ينبغي على الجميع، الحكومة وقوى المعارضة، أن يكونوا على وعي بهذه القضية، ذلك أن أي نظام يدفع إلى حدوده القصوى فإنه قد يخرق قواعده العامة ويسلك مساراً شاذاً. يحدث هذا مع الجهاز الهضمي، ومع نظام الحاسوب، ومع النظام البيئي والأخلاقي، والنظام السياسي والبرلماني ليس بدعاً من الأنظمة، ولهذا فهو مهدد بخرق قواعده إذا ما دفع به إلى حد أكثر من اللازم.
يذكر ألفين توفلر، أنه بعد انتخاب رونالد ريغان للرئاسة بوقت قليل، خرج لي أتووتر - أحد مساعدي ريغان الرئيسيين - وأدلى بهذا التصريح: «في الشهور المقبلة، ستسمعون كثيراً عن ثورة ريغان. وستحتل عناوين الصحف التغييرات الكبيرة التي يخطط لها ريغان. لا تصدقوا ذلك. إن ريغان يريد فعلاً تغيير أشياء كثيرة غير أنه لن يستطيع في الحقيقة تحقيق ذلك. لقد حوّل جيمي كارتر النظام خمس درجات في اتجاه معين وإذا عملنا بجد ومثابرة وإذا حالفنا الحظ بدرجة كبيرة قد يتمكن ريغان من تغيير اتجاه النظام خمس درجات في الاتجاه المضاد. وهذا ما تعنيه في الحقيقة ثورة ريغان».
إن ما يتحدث عنه لي أتووتر هنا هو «قيمة العمل» المتوقعة فيما يمكن أن تنجزه رئاسة ريغان من تغيير في اتجاه النظام، لكن الذي حصل هو أن ريغان لم يغادر البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 1989 إلا بعد أن أحدث ثورته داخلياً وخارجياً. مما يعني أن النظام تحوّل أكثر من «خمس درجات» في اتجاه معين. وهذا هو «فائض القيمة» في رئاسة ريغان. وبالمعنى ذاته مع الفارق طبعاً، يمكن القول بأن قوى المعارضة ستدخل البرلمان وهي تريد تغيير أشياء كثيرة، وستحقق بعض ما تريد. وتتمكن من تحويل النظام «خمس درجات» في الاتجاه المضاد لما فعلته السنوات الأربع المنصرمة، وذلك إذا ما عملت بجدٍ ومثابرة وإذا ما كان الحظ حليفها. لكن هذا لا يعني بتاتاً أن قواعد اللعبة ستعود إلى ما كانت عليه في العام 2002 قبل أن يحوّلها المجلس السابق «خمس درجات» في اتجاه معيّن. إلا أن هذا يعني أن المشاركة ستخلق - إضافة إلى قيمتها المتوقعة - «فائض قيمة» غير متوقع، وسيكون هو المعتبر في تقييم التجربة، وهو ما ينبغي أن يكون عليه الرهان. ونأمل أن يكون هذا الرهان رابحاً يدفع باتجاه تطوير التجربة الديموقراطية في البلاد
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1509 - الإثنين 23 أكتوبر 2006م الموافق 30 رمضان 1427هـ