العدد 1509 - الإثنين 23 أكتوبر 2006م الموافق 30 رمضان 1427هـ

دكتوراه كذبة أبريل

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

لشخص مثلي قضى في التعليم ردحاً من الزمن يؤلمني كثيراً المستوى التعليمي الذي وصلنا إليه، ليس في الكويت فقط وبشهادة المختصين والمهتمين، ولكن أيضا في العالم العربي المترامي الأطراف. وإذا كان التعليم هو المفتاح للتقدم فإن القائمين على التعليم هم مادة هذا المفتاح الخام فإن فسدوا فسدت منتجاتهم.

يقال إن أخطاء الأطباء مهما عظمت تواريها المقابر، أما أخطاء المعلمين فإنها تبقى لأجيال تعيث فساداً في المجتمع. هناك عدد من العوارض المرضية المثيرة للقلق في نظامنا التعليمي أوصلتنا إلى ما نحن فيه.

وكممارس للعملية التعليمية فإن ما أسمع وأشاهد وأختبر يومياً، يخيف أي عاقل ويستفز أي حكيم، فهناك بين الفترة والأخرى تثور قضايا في منتهي الأهمية لها علاقة بمستوى التعليم ومكانته ودوره في المجتمع، وتمر على الجميع مرور الكرام، كما تقول الحكمة السائدة ومن دون تساؤل، وهذا دليل كاف على أن المجتمع لا يأبه بالعملية التعليمة من حيث أهدافها التنموية ومحتواها، ومتى ما تجاهل أهل السلطة مستوى التعليم، فإن المجتمع لا يرجو أي خير منه، وتصبح العملية التعليمية فقط روتينية وشكلية تنتج للمجتمع أشباه أميين لا غير.

في الفترة الأخيرة وجدنا بعضاً من حكايات الإهمال التعليمي، فقد نشر على نطاق واسع أن أحد الأساتذة العاملين في جامعة الكويت قرر أن يكافئ طلابه بخمس درجات إضافية في المادة التي يدرسها بسبب «ما عانوه إبان الحرب في لبنان»! وقد نشر الخبر مع صورة جلية وبخط يد الأستاذ نفسه دال على ذلك التوجه، ومع ذلك لم تتحرك السلطات المعنية المناط بها متابعة العملية التعليمية للتحقيق في الأمر، ولم يسمع بعد ذلك عن أي إجراء ولو تأديبي اتخذ، أو أن الخبر نفسه لا صحة له في الوقت الذي ثارت ثائرة الصحافة وبعض المهتمين بنبأ «تعري أستاذة أمام طالباتها» في حصة الرياضة، وعلى رغم الخبر الثاني تبين انه مجازي، وإذ إن الفعلين خارجان عن المألوف والمتوقع، فإن ما أثار المجتمع هو الفعل الثاني وهو «عمل يضر ببعض الأفراد»، في حين انه سُكت عن العمل الأول وهو «يضر كل الأفراد»، وهو تخريب في العملية التعليمية عن بكرة أبيها.

وقد جاءت الشبكة العالمية للاتصال لتمكن البعض من كشف التلاعب المهني في العملية التعليمية، ففي موقع «السرقات الأدبية» الذي يتولاه بعض من أهل الغيرة، نجد فضائح السرقات العلمية وربما بعضها الظاهر على السطح فقط، منشوراً في هذا الموقع من دون أن تُكذب. وحمل الموقع هذا الأسبوع أخباراً عن «أساتذة» قاموا بتجاوز الحد الأدنى المطلوب في الأمانة العلمية، فنسبوا لأنفسهم جهد غيرهم، من دون إشارة أو استشارة، وهو عمل يجرم عليه في المجتمعات التي تهتم بالسوية العلمية لمن يناط بهم تعليم الأجيال.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن ظاهرة انتعشت في الخليج في فترة وربما مازالت وهي «البترو دكتوراه»، أي شراء شهادات الدكتوراه في تخصصات مختلفة، وخصوصاً في التخصصات الأدبية والعلوم الاجتماعية، ولا استثني العلوم التطبيقية والبحتة، من «دكاكين» مختلفة ومستعدة أن تقوم بالخدمة متى ما دفع الثمن.

كنت أعتقد أن الظاهرة «خليجية» وهي سمة من سمات إكمال «الشكل المظهري» في مجتمعاتنا، حتى وجدت أن الأمر يتعدى أهل الخليج ليصل إلى أن يكون ظاهرة عربية عامة. فهناك من يؤجر كاتباً أو أكثر من أجل أن يقوموا بالمهمة وذلك بثمن معلوم، ويصبح صاحبنا أو صاحبتنا حاملاً أو حاملة للقب علمي من دون محتوى أو تأهيل يصح فيه الكلم «كمثل... يحمل أسفاراً»، فهو إن تحدث تلعثم وإن كتب أسف والعياذ بالله، وفاقد الشيء لا يعطيه!

وتنتقل الأفاقة إلى الطلاب أيضاً ويتعمق الاشكال هنا، فهناك من يشترى «الشهادة» جاهزة مع صورة تذكارية أيضاً لها أو له، وهناك من «يؤجر» الجهد البحثي لمن يدفع، وتجد الإعلانات في جامعة الكويت مبعثرة في أكثر من مكان «بالاستعداد لعمل البحوث العلمية» التي يكلف بها الطلاب، وعند الحديث مع بعضهم عن هذه الظاهرة تجد أن المبررات جاهزة وأيضاً «معقولة» بشكل ما. فالبعض يبررها بأن الأستاذة يكلفوننا ببحوث لا يقرأونها! وبالتالي فإن «أي كلام» مكتوب يمر مرور الكرام على الأستاذ، لأنه يضع الدرجة على الشكل الخارجي للبحث وعدد صفحات البحث، لا على محتواه. بل تجد أن الظاهرة متفشية إلى درجة أن مجرد تكليف الطلاب ببحث ما، كثيراً ما يأتي التساؤل المتبرم من بعضهم بشأن عدد الصفحات؟ وعدد المراجع؟ وهذا يؤكد رجاحة الشكل على الموضوع، أي أن الاهتمام ينصب على الشكل قبل المضمون. وهو مؤشر خطير على تدني المنهجية العلمية المقدمة لطلابنا. وعلى المقلب الآخر نجد بعض الطلاب متبرمين من هذه الممارسة إلا أن أصواتهم لا تسمع.

التعليم هو معرفة ومهارة، وإن كانت المعرفة متطورة فالمهارة كذلك، وكلاهما لا يكسبان «بالوكالة» فإن لم يكن هناك تمرين مباشر وشخصي على كلا العاملين «المعرفة» و»المهارة» لا يستطيع آخر أن يقدمها للشخص أو الطالب، وإن فقدهما فقد أهم وسائل التعليم الحديث وفسدت أهدافه.

عجيب أمر إهمال العملية التعليمية في مجتمعاتنا إلى هذا الحد من التجاهل، فهي أولاً إهدار للموارد صارخ، وهي موارد مالية وإنسانية غالية، وهي ثانياً إهمال لتراث إنساني ضخم قال عنه الإسلام أول كلماته «اقرأ»، وقال عنه القديس يوحنا في سفر التكوين «في البدء كانت الكلمة». هذا الإهمال المزدوج هو الذي أورد مجتمعاتنا هذا الشقاق السياسي العميق الذي نتلمس مظاهره في كل مكان، بعضا من مظاهره أشكال من التعصب الأعمى بيننا، وهو أيضاً الذي أوردنا مورد التخلف، فمن لم يدرب على إعمال عقله والبحث خلف الظواهر والقراءة الجادة تمهيداً لتكوين الأحكام وبلورة الآراء يصبح لقمة سائغة للتضليل، فإحدى فوائد القراءة هي أن نعد أنفسنا لتقبل التغير.

لن يصلح التعليم ويؤدي دوره إلاّ إذا اقترن بعملين على الأقل، الأول «العمل بموجب العقل» في العملية التعليمية من أولها إلى آخرها، وثانياً تحييد العملية التعليمية عن التدخلات الخارجة عن إطارها ومعاييرها، خصوصاً التدخلات السياسية التي ما فتئت تنخر في العملية التعليمية وتحرفها عن أهدافها التنموية والإنسانية. إنها حال من سوء الفهم «الإرادية» قائمة بيننا في التشبث بقشور العملية التعليمية وإهمال كل من أصولها ومقاييسها. في هذا الجو من الارتباك لا يجب أن نعجب من شيوع التكاسل على مستوى المعطي والمتلقي في مجتمعات تمشي مشية قلقة مع فقدانها أكثر وأكثر للثقة بالنفس

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1509 - الإثنين 23 أكتوبر 2006م الموافق 30 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً