تعكس التسريبات التي جاءت على لسان وزير الأشغال العامة عمار غول والمتعلقة بالتهديدات التي تلقاها في إطار مشروع الطرق السيارة الذي يربط شرق الجزائر بغربها، النفوذ المتنامي للوبيات الداخلية المرتبطة بالمجموعات الاقتصادية العالمية، في هذا السياق، يبدو أن هذه الأخيرة مستعدة لأي عمل و»تضحيات» من أجل انتزاع العقود الضخمة من الحكومة الجزائرية.
يتساءل مسئول جزائري كبير، كيف يمكن في ظل طرح هكذا مشروع تبلغ كلفته الـ 11 مليار دولار ألا تدفع مجموعة الشركات الأميركية التي أبعدت عن هذه الصفقة لصالح اليابانيين والصينيين الرد على طريقتها في مثل هذا النوع من التنافسية؟ ويضيف هذا الأخير قائلاً: عندما تفتح الأولى أبواب الورشات على مصراعيها، كذلك الأبواب أمام العمالقة من الشركات العالمية المتخصصة في مجال البنيات التحتية من دون تطبيق نظام صارم للمراقبة وضبط حدود اللعبة، ألا نتوقع حروباً بين هذه اللوبيات التي تعمل لحساب الشركات العالمية، ذلك وخصوصاً أن الجزائر تضاعف سنوياً عائداتها من النفط والغاز.
فإذا وضعنا جانباً قطاع الطاقة الذي يشكل أكثر من 9.7 في المئة من واردات الاقتصاد بالعملات الأجنبية كذلك ميدان شراء الأسلحة الذي تمسك به المؤسسة العسكرية بقبضة من حديد، فإن الباقي تقريباً وخصوصاً في مجال البنيات التحتية يخضع لتجاذبات الشركات العالمية.
هذا، من دون الأخذ في الاعتبار أن بنيات الحكم في الجزائر ليس مستعداً لاستيعاب تفوق كبير لها، كما هو حاصل حالياً الذي يحمل في طياته الكثير من المخاطر.
ويشير المقربون من رئيس الوزراء الأمين العام لجمعية التحرير الوطني الجزائرية الحزب الأقوى في البلاد الذي يرأسه فخرياً رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة الى أن هذا الأخير قد اكتشف بعد تأخير سيادي سياسة الانفتاح العشوائية التي اعتمدها في بدايات عهدته الأولى.
ما يفسر اليوم العودة عن بعض القرارات الاقتصادية أهمها الإغلاق مجدداً لقطاع الطاقة بعد التصويت على القانون الذي يفتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي ولو بشروط.
وجاءت قضية وزير الأشغال العامة في الوقت السيئ بالنسبة الى رئيس الدولة الذي يحاول إقناع الجميع داخلياً وخارجياً بأنه ممسك بمفاتيح السلطة كلها بيده. فبوتفليقة مدرك أكثر من أي كان أن المجموعات الاقتصادية العالمية قد نجحت في السنتين الأخريين من أنشاء «لوبيات» داخلية (مجموعات ضغط) موجودة اليوم في الكثير من المواقع الرئيسة في البلاد وعلى جميع المستويات، ما يظاهر على مدى الأيام فعالية هذه المجموعات كذلك قدرتها على التعطيل. والشواهد على ذلك كثيرة بالعوائق التي وضعت في طريق تنفيذ توسعة مكان هواري بومدين العالمي قد أثارت خشية الرئيس الجزائري الذي سارع، قبيل العطلة الصيفية، للقاء رموز السلطة في المؤسسة العسكرية لشرح أبعاد وخطورة هذا الوضع وبالتالي إشراكهم في مكافحة توسع نفوذ هذه لمجموعات الضغط الجزائرية هذه، والعاملة لحساب الشركات الأجنبية.
والدليل على ذلك، أنه بعد عودة بوتفليقة من عطلته التي دامت أكثر من شهرين ركز الأخير في جميع مداخلاته العلمية على الجانب الاقتصادي، إلى حد انه لم يعد يعطي أدنى اهتمام للتحضيرات التي كانت جارية على قدم وساق لتعديل الدستور الذي يسمح له الاضطلاع بولاية ثالثة.
في المقابل، شن رئيس الدولة هجوماً واضحاً على اللوبيات والمجموعات الدولية عندما توجه في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي إلى حكام المصارف العربية المركزية ورؤساء المؤسسات المالية المجتمعية في الجزائر، بالقول: «يجب على الدول العربية والإسلامية ان تضع حداً لذهب ثرواتها وأموالها من قبل الشركات والمصارف الأجنبية». رسالة موجهة بحسب تقدير المراقبين لمجموعات الضغط الجزائرية بالدرجة الأولى، ولشبكاتها الموجودة على جميع مستويات القطاع المصرفي والسوق المالية المحلية.
لم يتصرف بوتفليقة على هذا النحو وبهذه الحدة إلا بعد شهر بوزن هذه «اللوبيات» وتعاظم نفوذ الشركات الأجنبية التي لم تعد تتردد منذ الآن وصاعداً امام أية خطوات وتفيد المعلومات في هذا الصدد بأن مجموعات الضغط تلعب جميع الأوراق بهدف تعزيز مواقعها داخل الخريطة الاقتصادية للبلاد. من أجل ذلك ذهبت إلى حد نسج علاقات مع المجموعة الإرهابية المتطرفة من اجل مساعدتها من خلال ممارسة تهديداتها وضغوطها على ولاة بعض المدن والمناطق الكبرى التي تنفذ فيها المشروعات البنيات التحتية، ما أدى إلى عزل الكثير من هؤلاء وتحويل البعض على التحقيق. ولهذا السبب تشير بعض الأوساط المطلعة، ثم إصدار القانون المتعلق بضرورة إعلان النواب والوزراء عن ممتلكاتهم.
ولا يخفي مستشارو الرئيس بأن همه الأكبر في هذه المرحلة يتلخص في كيفية مواجهة حجم «اللوبيات» المتنامي والتي لم تعد شبكاتها الموزعة في أنحاء البلاد وفي جميع القطاعات تتراجع أمام أي شيء، ما حدا بالمكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية القول: «إننا لن نسمح بأن تتحول بلادنا إلى شيكاغو سنوات الثلاثين من أجل سود عيون أنظار منظمة التجارة العالمية والعولمة»، ما يعني ان المعركة بين مجموعات الضغط قد فتحت وأن الدولة والجيش سيدخلانها موحدين.
سلاح التنويع
لقد انتهى الرئيس بوتفليقة بعد مشاورات واسعة مع ابرز مستشاريه الاقتصاديين إلى ضرورة تطبيق سياسة تنويع متوازنة بشكل دقيق بين مختلف المجموعات الاقتصادية العالمية المهتمة بالسوق الجزائرية والمشروعات التي أطلقتها الدولة. كذلك، إلى أهمية العمل على فصل هذه المجموعات عن «اللوبيات» الداخلية التي تعمل لحسابها عبر توقيع على صفقات نهائية، وإيهام هذه الشركات بأن اللجوء إلى الوسائل التي تعتمدها حالياً لن تعطي أية نتيجة. في هذا الإطار، يمكن فهم التوضيحات الواردة في تصريحات وزير الخارجية محمد بجاوي احد أكثر الشخصيات المقربة من الرئيس الجزائري، التي أدلى بها عشية سفره في يونيو/ حزيران الماضي لواشنطن. فرئيس الدبلوماسية الجزائرية الذي يعتبر صديقاً للأميركيين، قد أشار إلى أن العلاقات مع الولايات المتحدة هي كغيرها مع بقية الشركات فالجزائر تسعى إلى إقامة وتعزيز علاقات صداقة متعددة الأشكال ضمن الاحترام المتبادل والتوازن في المصالح. وكان بجاوي يرد بذلك على «اللوبيات» التي أبدت قلقاً من النمو المتزايد للعلاقات مع أميركا، وخصوصاً بالنسبة الى دخول شركاتها في استدراجات العروض وخصوصاً في مجال البنيات التحتية إلى جانب الصينيين، وامكان دخول سوق التسليح إلى جانب موسكو. على ذلك، يرد بجاوي أيضاً بالقول: «انه من المستحيل ان تفضل الجزائر شريكاً على آخر». ومضيفاً « اننا نبحث ببساطة عن الوسائل الكفيلة بتنمية علاقات وثيقة ذات صدقية مع جميع الشركاء وخصوصاً الأهم فيما بينهم».
ويعتبر المراقبون ان هذه الجملة الأخيرة قد لخصت الأساس في رسالة الدولة للمجموعات الدولية، بمعنى انها كانت طمأنت الجميع بأنه لن يكون استثناء لأحد وان الجزائر ستعطي المتقدم الأفضل الذي تدعم بلاده سياسة الجزائر على الساحة الدولية وداخل المؤسسات العالمية،انطلاقاً من هذا المفهوم يجب التخلص من فكرة العمل على ممارسة ضغوط التي وصلت إلى حد التهديدات لتحقيق الأهداف الاقتصادية.
وفي سياق الهجوم المضاد الذي اعتمدته السلطة الجزائرية أفهمت هذه الأخيرة رؤساء مجالس إدارات الشركات الأجنبية ومديريها العامين التي التفت حولهم أخيراً. في بعض العواصم الغربية، ان الجزائر لديها أيضا الوسائل المالية والشبكات الكفوءة التي بإمكانها الرد في حال تجاوز الخطوط الحمراء. ذلك، إلى حد العودة للأيام الماضية التي تلت مرحلة الاستقلال. ما يمكن أن يزعج مصالح هذه الشركات التي تختار عرقلة النمو الاقتصادي في الجزائر ولم يتأخر الرئيس بوتفليقة باستخدام سلاح التنويع. لقد عمد شخصياً بحسب مقربيه لدراسة المع والضد المتعلقين باعطاء كل مشروع لمجموعة خارجية. كما كان يبذل في أكثر الأحيان، جهوداً لضم شركة أو اثنتين للمشروع نفسه. هذا من جهته، ومن جهة أخرى، اعتمد بوتفليقة سياسة توزيع مدروسة بحيث يحظى الأفضل من المتقدمين في كل ميدان على حصته. ذلك بهدف الوصول تدريجيا لمبدأ اعطاء العقود للأكثر تخصصا وللأفضل سعرا بناء عليه فإذا كان الأميركيون لايزالون في المرتبة الأولى منذ أيام الرئيس بومدين في قطاع الطاقة، فهم حتماً يسبقون، لكن عليهم التعايش من الآن فصاعداً مع الايطاليين والروس والفرنسيين الموجودين اليوم في قطاع الغاز، في حين يسجل الاسبان اختراقات بواسطة شركة «ربسول» في النفط. ويبدي الاسبان هجومياً متزايداً عبر شركاتهم المتخصصة والتي تركز نشاطاتها على البناء السكني ومشروعات تطهير المياه وتحليتها. وتقوم مجموعة «جيدا» حالياً ببناء محطتين ضخمتين في منطقتي سكيكدا وبني صاف.
وفي إطار التوجه نفسه في التنويع المتوازن، اشترت الجزائر منذ نحو عام طائرات نقل عسكرية وأسلحة من إسبانيا، ما يريح الأميركيين الذي يعتبرون أن هذا التوجه يحرم الروس من نفوذ متزايد، كما يقلل من هامش احتكارهم لبيع السلاح للجزائر. وتنظر واشنطن بعين الرضا أيضاً لردة الفعل الإيجابية للعروض الأميركية التي قدمها مسئولون أميركيون رفيعو المستوى على غرار وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائب وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى وشمال إفريقيا دافيد ويلش، بشأن بيع السلاح للجزائر. هذا البلد الذي برأي الأميركيين يسير في الطريق الصحيح الذي سيؤدي لإقامة شراكة صلبة. يشار إلى أن المشاركة المتزايدة منذ ثلاثة أعوام في المعرض الدولي بالجزائر، حيث تظهر الشركات الأميركية اهتماماً استثنائياً بالسوق المحلية.
على أية حال، يعتبر المحللون السياسيون والاقتصاديون أن المعركة التي تخوضها الحكومة الجزائرية ضد «اللوبيات» المحلية لاتزال بعيدة عن تحقيق الانتصار المنشود. كما أنها تلحظ أن الحرب بين مجموعات الضغط هذه لاتزال في بداياتها. وتعطي عدة مؤشرات الحق في التقديم الذي قدمه هؤلاء المحللون الذين استندوا إلى الضغط والتهديد الذي تعرض له حديثا الوزير عمار غول، الذي لجأ إلى مؤتمر صحافي لشرح أبعاد هذه المسألة شاكراً في النهاية الله بابقائه على قيد الحياة. إلى ذلك تضاف التهديدات التي تصل شبه يومياً للكثير من الشركات المتوضعة
العدد 1508 - الأحد 22 أكتوبر 2006م الموافق 29 رمضان 1427هـ