سبقت الإشارة في مقال الاثنين الماضي إلى أن الانسداد الذي تُواجَه به أية مجموعة وأي جزء من الشعب يؤدي إلى حالات من التعايش المريض في وسطها الاجتماعي، كما يؤدي إلى عدم انتظام علاقاتها بجهات القرار المسيطرة، وتناولت في المقال إحدى المفردات التي تجعل ذلك القسم من الشعب في وحشة نفسية تفصله عن محيطه العام، أشرت إليها تحت عنوان الشعور بالغربة، وفي مقال اليوم أود الإشارة إلى مفردة أخرى وهي الإحباط.
هذه المفردة ليست غريبة عنا، وليست بعيدة في تصورها عن أذهاننا، ولذلك يكون الحديث فيها زائدا عن الحاجة، لأنها تعيش معنا غالبا، وربما يكون من إيجابيات مجتمعاتنا التي تعايشت مع الإحباط، أنها تمكنت من الاحتفاظ به ولم تتأثر بعد بسلبياته التي لا تنفك ضاغطة وباعثة على الكثير من الأسئلة، ومسئولة عن عدد كبير من الاحتقانات، بعد أن نؤكد أن حصة الأسد في تلك الاحتقانات هي للأفعال والممارسات، قبل أن نوفر لردود الفعل وللانفعالات قدر من المسئولية.
فحين تتصفح تاريخا يمتد عشرات السنين لمجتمع ما، وتسعى لاستعراض حراكه ضمن خطين رئيسين هما مجتمعه العام أو بعبارة أوضح محيطه العام، وجهاته الرسمية، وتذهب بعيدا في تاريخ ملفاته المتراكمة، فتلاحظ أن غالبيتها بل كلها ملفات ذات طابع سلمي، وأن طرقها للباب دائما ضمن الأصول، وأن حراكها يتم بهدوء ومن دون ضوضاء أو صخب، فإنك لا شك تكون أمام مجتمع يتحمل مسئوليته بوعي، ويسعى متلمسا الحلول لها بحرص يُكبر فيه ويُكتب له بماء الذهب الصافي عن الشوائب.
لكنك ستجد نفسك أمام سؤال ملح ومحرج عن تلك المحاولات التي تليها محاولات أخرى والمعاريض (جمع معروض) المتبوعة بمعاريض وراءها، وعن الأوراق والتصورات واللقاءات المتلاحقة خلف بعضها، إلى أين وصلت؟ وماذا أنتجت؟ وعن ماذا تمخضت؟
تلك الأسئلة ستجرك شئت أم أبيت إلى سؤال مهم، يدور حول طبيعة ما كان يدور في تلك اللقاءات، وما كانت تحمله تلك الخطابات والمعاريض؟ ماذا كانت تريد؟ وماذا تطلب؟ وإلى أين تريد الوصول؟
ستساعدك تلك الأسئلة في الوصول إلى حقيقة ماثلة وواضحة وصغيرة وهي أن الهدف كان دائما هو البحث عن مخرج أو متنفس أو الحصول على إجابات لأسئلة قلقة، أو نيل مطلب طبيعي وسهل ويسير.
هنا يصبح الخوف مشروعا من تشبع النفوس بالإحباط، واستجابتها له، وتحركها في طريقه المظلم، فالإحباط مؤلم للشخص ومؤلم للمجتمع، وإذا كان الشخص قادرا على التحكم في ألمه إن أُحبط، فإن الصعوبة واضحة وحرجة بالنسبة للمجتمع، إذا لا يعلم أحد كيف سيعبر المجتمع عن إحباطه؟ ولا أين؟ ولا متى؟ ولا بأي شكل سيظهر ذلك؟
هناك خطر من ضعف الولاء لجهة القرار، والبحث عن ولاءات أخرى كالولاء للقبيلة لتحل بديلا عن الولاء للدولة، أو الولاء للطائفة لتعوض ولو نفسيا ما يفتقده هذا القسم من الناس جراء تهميش النظام القائم، وعدم اكتراثه لمطالب الناس وشكاياتهم المتواصلة المطالبة بإصلاح الخلل عبر إشراك الجميع في خيرات بلادهم وقراراتها والمساهمة في اعمارها.
أعود لأقول ان تلك الولاءات كما هو غيرها من الولاءات الأخرى تسبب ضعفا في الولاء للمركز المتمثل في الدولة أو السلطة المعبر عنها بجهة القرار.
وهناك خطر الولاء للخارج بعد اليأس من الداخل، وهذا منزلق خطير وقرار شائن، وتجارب الشعوب معه مريرة ومهلكة، ما زلنا نعيش لحظاتها في الاحتلال الاميركي للعراق الحبيب، ولا يُلجأ لهذا القرار بعقل ولا بحكمة ولا بوطنية، لكن قد يسول الإحباط المؤلم للنفوس فتندفع إلى الجحيم، تماما كما يقدم كثيرون في هذا العالم على الانتحار ووضع حد لحياتهم، بعد سنين طويلة من المعاناة واليأس والإحباط، على كل تقدير مثل هذا القرار هو في رتبة الأخطار التي يجب أن لا يغفل عنها ولا تستبعد مع غزل الخارج وإغوائه وترغيبه تبعا لمصلحته في اللعب بالأوراق وخلطها ثم تشكيلها كما يشاء.
وهناك خطر اللجوء للعنف، هذا الخطر الذي داهمنا، فأمعنا بتسمية القائمين به بالإرهابيين ووصفناهم بأسوأ الأوصاف لكن تغافلنا عن أسبابه ودواعيه، ومنها الإحباط واليأس.
سأنتهي من مقالي بالقول: إن منهجية أخرى لا تعمد على سد الطرق ولا على تيبس القنوات وعدم استجابتها، بل تتحرك بمسئولية الراعي المسؤول عن رعيته والمتأثر بآلامها، والحالم بآمالها هي المنقذ الحقيقي لأوضاعنا المريرة عبر الاحتواء والمعالجة الجادة للتصنيف والتمييز الذي لا خير فيه
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1508 - الأحد 22 أكتوبر 2006م الموافق 29 رمضان 1427هـ