في الوقت الذي تشير استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة إلى احتمال فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات التشريعية النصفية في الشهر المقبل، يتصرف الرئيس الأميركي جورج بوش بأسلوب مخالف لمجرى الوقائع الميدانية. فهذه الإدارة كررت مراراً أنها لا تأخذ أوامرها من الشارع وهي تخطط سياستها من دون اكتراث للرأي العام وتقرأ مصالح الدولة العليا في سياق استراتيجي بعيد المدى.
عدم اكتراث إدارة «البيت الأبيض» بالنتائج الميدانية لا يقتصر على مجال السياسة الداخلية وإنما يمتد ليشمل السياسة الدولية وما أسفرت عنه تلك الحروب من سلبيات في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين.
إنها فعلاً إدارة غريبة من نوعها في التاريخ الأميركي المعاصر وهي تشبه في تصرفاتها الكثير من أنظمة «العالم الثالث» المشهورة بعدم انتباهها لرأي الناس ومصالحهم ومطالبهم. وهذا النوع الجديد والمغاير لتقاليد السياسة الأميركية يعطي فكرة سريعة عن ذاك التدهور العام الذي بدأ يشق طريقه إلى هذه «الدولة» التي كانت تتباهى دائماً بتفوقها الخاص والشامل قياساً على تلك «الديمقراطيات» الأوروبية. وحين تصبح دولة مثل الولايات المتحدة تنافس أنظمة «العالم الثالث» في النفاق أو التحايل فمعنى ذلك أن العالم مقبل على متغيرات لا يمكن ضبطها في قوانين السياسة الكلاسيكية.
أمثلة كثيرة يمكن تقديمها للدلالة على هذا «النموذج» الذي أخذ يطيح بكل التراكمات التي شكلت تلك السمة الخاصة للولايات المتحدة. المثال الأخير هو توقيع الرئيس بوش على مشروع قانون يعطي صلاحيات للأجهزة الأمنية بممارسة الضغوط على المعتقلين لتقديم معلومات من طريق الإكراه. والتوقيع على القانون أعطى مشروعية لكل تلك المخالفات التي ارتكبتها المخابرات في فترة السنوات الخمس في أفغانستان والعراق وسجون التعذيب والغرف السرية والسجون الطائرة أو السرية في أوروبا الشرقية أو معتقل غوانتنامو.
توقيع مشروع القانون جرى في وقت كانت استطلاعات الرأي تشير إلى احتمال تلقي الحزب الجمهوري هزيمة قاسية في انتخابات الكونغرس النصفية لأسباب تتصل بالتجاوزات الاخلاقية لزعيم الغالبية ولفشل الإدارة في مكافحة «شبكات الإرهاب».
إلا أن المثال الأهم هو التعاطي السلبي الذي واجهت فيه إدارة بوش تلك المعلومات الصحافية التي تسربت من تقرير وزير الخارجية السابق جيمس بيكر بشأن الحرب على العراق والاقتراحات التي قدمها للخروج من المأزق. فالوزير السابق وصف في تقريره النتائج بالكارثية ولم يستبعد حصول حرب أهلية وتقسيم العراق الى دويلات ثلاث (سنية، شيعية وكردية). واقترح بيكر للخروج من الكارثة التي وقعت فيها الإدارة الأميركية مجموعة أفكار منها انسحاب مرحلي أو تجميع القوات في قواعد وترك الأمن للعراقيين أو الاتصال بإيران وسورية والتعاون معهما لتقديم مساعدات لتخفيف شدة العنف.
اقتراحات بيكر وهي لم تصدر حتى الآن بصفة رسمية، لم تلقَ الاحترام أو حتى تلك الآذان الصاغية التي تنتبه للتحذيرات وتتعامل مع المخاطر بأسلوب جاد. فالإدارة وجدت في التقرير مجرد وجهة نظر لا تقدم ولا تؤخر في المعطيات الميدانية. بل ان نائب الرئيس ديك تشيني أشار إلى أن الخسائر الأميركية في أفغانستان والعراق لن تثني الإدارة عن استراتيجيتها. بينما رد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد على تلك الأفكار من خلال تصريح أدلى به احد مساعديه في «البنتاغون» مشيراً الى ان وزيره على اتصال مع «الأعلى» ويأخذ اوامره منه.
الكلام مع«الأعلى» ليس جديداً على هذه الإدارة. فالرئيس بوش كرر هذا الادعاء في أكثر من تصريح وذكر مراراً بأنه لا يكترث لتحليلات الصحف واخبار التلفزة بشأن سياساته والأخطاء التي ارتكبها في الخارج.
صنف رديء
العالم اذاً امام صنف من الناس لم تعهدهم إدارات «البيت الأبيض» سابقاً. فمثل هذا النوع السيئ من المسئولين يصعب التكهن بسياساته وقراراته وتصرفاته مادام السلوك الذي يتحكم فيه يتأتى من مصادر فوقية لاعلاقة لها بالبشر. وهذا يعني أن الرهان على احتمال تغيير الإدارة سياستها الخارجية في القريب العاجل مسألة غير واردة الا اذا عدل «الأعلى» مواقفه ووجهة نظره. وبما ان «الأعلى» لا يتصل الا بهذه الإدارة فان معرفة المستقبل تصبح من الأمور الصعبة.
المراهنة إذاً على نتائج الانتخابات النصفية في الشهر المقبل لتغيير السياسة الأميركية تراجعت الآن إلى درجة متدنية. كذلك يمكن القول ان تقرير بيكر لن يلعب دوره المتوقع في التأثير على هذا النوع من الصنف الرديء من البشر. فالاقتراحات التي قدمها وزير الخارجية السابق بشأن موضوع العراق لن تجد الطرف العاقل القادر على التعامل معها بواقعية.
قياساً على هذه المفارقات، كيف يمكن وصف سلوك هذه الإدارة في حال سقطت في الانتخابات المقبلة أو في حال استمر انهيار العراق وصولاً الى الانفجار الأهلي وتوزع مناطقه إلى دويلات طائفية/ مذهبية؟ الاحتمال المرجح بناءً على هذه الادعاءات المخالفة للمنطق والعقل هو ذهاب الإدارة إلى مزيد من التشدد والتطرف... وربما الهروب إلى الامام.
هذا ما تشير اليه التحركات الميدانية والحشود البحرية في مياه الخليج. والحشد كما تقول النظريات العسكرية «نصف حرب». وحين ترد إدارة على فشلها بسياسة المكابرة وعدم الاعتراف بالواقع والادعاء بوجود اتصالات ومعلومات ترد من «الأعلى» فمعنى ذلك أن الاحتمالات لا يمكن حصرها في خيار موضوعي واحد.
الخيار الموضوعي نصح به بيكر في تقريره وهو يقوم أولاً على فكرة الاعتراف بالفشل، وثانياً على ضرورة احتواء تداعيات الفشل، وثالثاً التفكير في حلول واقعية للخروج من المأزق، ورابعاً البحث عن صيغة منطقية تضبط ايقاع الأزمة، وخامساً البدء في التفكير في الانسحاب وفق صيغ مختلفة تتراوح بين تسريع الخروج أو تنظيمه على مراحل، وأخيراً قراءة واقع العراق ومحيطه وتطوير فكرة الاتصال مع دول الجوار وبذل الجهود المشتركة لانقاذ ما يمكن انقاذه.
هذا الخيار الموضوعي الذي يقال ان بيكر اقترحه في تقريره يبدو انه غير مطروح للقراءة أو البحث من جانب إدارة لا تأخذ اوامرها من البشر. وبما ان سياسة أميركا غير قابلة للنقاش أو التعديل بسبب تلك الاعتبارات «الفوقية» لا يستبعد ان تتجه إدارة بوش الى خيار تجديد المغامرة العسكرية كوسيلة «عليا» لفرض الشروط والاملاءات على قوى رفضت الاستجابة أو التكيف مع معادلات استراتيجية التقويض التي ابتكرتها واشنطن في السنوات الأخيرة.
فهل الحشود العسكرية البحرية الأميركية في مياه الخليج هي جزء ميداني من منطق سياسي يقرأ التغيير من زاوية القوة ويرى ان استخدام العنف لكسر العلاقات الدولية يختصر الوقت ويعطي للأفكار زخماً ويدفعها للانتشار من دون حاجة إلى الانتظار ومن دون ضرورة لوجود تطور زمني يعطي فرصة موضوعية للنجاح؟ فهل الحشود هي اشارة في هذا المعنى ام هي مجرد تهويل عسكري لتخويف القوى المعنية وتوجيه رسالة تؤكد أن أميركا لاتزال قوية وقادرة ولم تتراجع ولن تستلم؟
من الصعب تقدير الموقف النهائي. إلا أن إدارة من هذا النوع لا تأبه للاستطلاعات ولا تكترث بالنتائج تطرح احتمالات مزاجية كثيرة لا صلة لها بالواقع وقد تتراوح بين الانسحاب السريع من العراق أوالهروب إلى الامام والدخول في مغامرة عسكرية غير محسوبة النتائج. فهذه الإدارة لا تحسب النتائج ولا تقرأ السلبيات فهي فقط منشغلة بالأسباب وتلك الأوامر والنواهي التي تصدر عن «الأعلى»... وبعدها على البشر دراسة وتحليل المحصلة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1508 - الأحد 22 أكتوبر 2006م الموافق 29 رمضان 1427هـ