تم في المقال السابق تتبع بدايات التحرك الخليجي في مجال المياه، وتبين أنه خلال فترة ما بعد الاستقلال وإنشاء الأجهزة المسئولة عن المياه في دول المنطقة في مطلع السبعينات تمحورت اهتمامات المسئولين في هذه الأجهزة في مجال إدارة الموارد المائية حول جانب تعظيم العرض وزيادة الإمدادات المائية لسد احتياجات قطاع مياه الشرب المتنامية بشكل رئيسي، ولم تحظ قضية استدامة المياه والمحافظة عليها بالاهتمام الكافي بقدر ما حظيت به قضية توفير المياه لمختلف قطاعات الاستخدام، وخصوصاً للقطاع الزراعي، إذ كانت تسود المنطقة سياسات تعظيم الإنتاج الزراعي لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية للسكان والاكتفاء الذاتي من الغذاء. إلا أنه مع مرور الوقت بدأت تظهر إشارات التحذير ببروز المشكلة المائية وبالتضارب بين قضيتي الأمن الغذائي والأمن المائي وتوفير المياه الصالحة للشرب. واحتلت موضوعات تبني السياسات المائية الوطنية وخطط التنمية المائية، والترتيب المؤسسي وبناء القدرات الوطنية لتنفيذها، والتعاون العربي صدارة الحلول المطروحة.
ويشار هنا إلى أنه خلال فترة الثمانينات، ومع زيادة بروز المشكلة المائية في دول المجلس، ظهرت الكثير من الأفكار والمقترحات عن زيادة الإمدادات المائية لسد الاحتياجات المائية المتنامية في المنطقة مثل جلب المياه من الخارج، ويذكر منها نقل الجبال الجليدية من القطب الجنوبي المتجمد، واستخدام مياه التوازن في ناقلات النفط لجلب المياه من دول شرق آسيا ذات الوفرة المائية. إلا أن جميع هذه المقترحات واجهتها مصاعب تقنية أو اقتصادية أو سياسية. كما طرح مشروع تحويل مياه دجلة والفرات إلى دولة الكويت، إلاّ أن غزو العراق للكويت في العام 1990 ألغى فكرة هذا المشروع من أساسها.
وفي مطلع التسعينات، وبعد حرب تحرير الكويت والانتفاضة الأولى وبدء المفاوضات المتعددة الأطراف بين الفلسطينيين/ الدول العربية و»إسرائيل»، قامت تركيا والغرب بتسويق مشروع نقل المياه من تركيا إلى دول المجلس عبر دول المشرق العربي، أو ما سمي بـمشروع «أنابيب السلام». ولم يلق هذا الاقتراح أي تجاوب من دول المجلس نظراً إلى مخاطره السياسية وتبعاته الاقتصادية في مقايضة المياه التركية للنفط العربي.
يذكر أن المفاوضات المتعددة الأطراف نظرت إلى المياه كأحد نقاط النزاع المحتملة في منطقة الشرق الأوسط، وتم اقتراح تطوير تقنيات التحلية وتقليل كلفها كأحد الحلول التي يمكنها أن تساهم في تخفيف حدة النزاع في المنطقة، وبناء عليه تم إنشاء «مركز الشرق الأوسط لأبحاث التحلية» في العام 1996 في سلطنة عمان بدعم من دول المجلس والدول العربية الأخرى والاتحاد الأوروبي وأميركا واليابان وكوريا الجنوبية و»إسرائيل». إلا أن مشاركة دول مجلس التعاون عموماً في أنشطة المركز تقلصت بشكل كبير بعد تقلص فرص السلام في المنطقة واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومازالت هذه المشاركة محدودة جداً إلى يومنا هذا.
ويمكن القول إن دول المجلس وصلت إلى قناعة أن جلب المياه من الخارج هو خيار غير مقبول ويحمل معه مخاطر سياسية وتقنية واقتصادية كبيرة، وأن التعاون في مجالات»المنتج» من المياه مع الدول العربية والصديقة هو الخيار الأفضل. وفي هذا المجال طرحت فكرة استثمار دول المجلس في مجال الإنتاج الزراعي في السودان بسبب الميزة النسبية التي تمتلكها في مجال الزراعة - إلا أن هذا المقترح لم ير النور بسبب الأوضاع السياسية غير المستقرة في السودان آنذاك وعدم وجود أنظمة حماية الاستثمار الأجنبي فيها.
في العام 1987، أي بعد عام من عقد أول مؤتمر للمياه في المنطقة، تم تأسيس جمعية علوم وتقنية المياه، لتصبح أول منظمة علمية إقليمية غير حكومية في مجال المياه في منطقة الخليج العربي. وانبثقت فكرة تأسيس الجمعية من خلال جهود فردية لبعض المعنيين بشئون المياه في دول مجلس التعاون. وبحسب بيان تأسيس الجمعية تمحورت أهداف الجمعية حول تشجيع علوم المياه وزيادة الاهتمام بها، وتقوية الروابط والعلاقات بين العاملين في مجال المياه في دول المجلس، وتشجيع البحث العلمي وتطوير وبناء القدرات الوطنية في مجالات علوم وتقنيات المياه المختلفة.
ويلاحظ من أهداف الجمعية مقاربتها بشكل كبير لأهداف «المجلس العالمي للمياه» الذي أنشئ في العام 1996 ليقوم برفع أهمية المياه إلى مستويات عالية في الأجندة السياسية للدول والعالم. وعلى رغم أن أهداف الجمعية جاءت قاصرة نوعاً ما في هذا المجال، أي الدفع نحو توليد الالتزامات السياسية في سبيل حل قضايا المياه في المنطقة، فإنه بالنظر إلى الأعضاء المؤسسين لهذه الجمعية وأعضاء مجالس إداراتها المتوالية نجد أن معظم هؤلاء كانوا يمتلكون مناصب حكومية رسمية عليا، كما خصصت الجمعية مقعداً دائماً لممثل الأمانة العامة لدول المجلس في مجلس إدارتها، لتعزيز العمل المشترك من خلال الأمانة وإيصال صوتها لدول المجلس. ويمكن الاستنتاج هنا وبقدر كبير من الاطمئنان إلى أن آراء ونتائج أعمال الجمعية لم تكن معزولة عن المسئولين عن المياه في حكومات المنطقة والأمانة العامة، وأن الدور الضاغط للجمعية على حكومات المنطقة لتنبيهها أو لتعديل سياساتها المائية كان موجوداً.
وبعد تأسيسها، خططت الجمعية لعقد مؤتمرها العلمي الأول في العام 1990 إلا أن غزو العراق للكويت أخّر عقد المؤتمر، وبعد تحرير الكويت واستقرار المنطقة عقدت الجمعية مؤتمرها الأول في دبي في العام 1992 تحت شعار «المياه والتنمية في الخليج... تحديات المستقبل» وحضره ما يقارب 300 مشارك من دول المجلس. واعتبر ذلك المؤتمر حقا المؤتمر الأول الذي ناقش قضايا المياه الخاصة بمنطقة الخليج، إذ تطرق للكثير من القضايا المهمة في المنطقة آنذاك، وخرج بتوصيات مهمة في مجال ترشيد استهلاك المياه وخصوصا في القطاع الزراعي، وضرورة عدم التمادي في قضية الأمن الغذائي على حساب الأمن المائي، ونشر ورفع الوعي المائي لكل قطاعات المجتمع، وكذلك ضمن المقررات المدرسية لإنشاء جيل واع مائياً، والتعاون في برامج التدريب والتأهيل في مجالات علوم وتقنيات المياه المختلفة، والتعاون والتنسيق بين مراكز البحوث وتخصيص الموارد المالية لتوطين تقنيات المياه في المنطقة ووضع حوافز تجارية لتشجيع رأس المال الوطني مساهمته في ذلك، والتعاون في إنشاء مركز إقليمي للمعلومات المائية، ووضع خطط وطنية وإقليمية متكاملة للظروف الطارئة وتوفير مخزون استراتيجي من المياه العذبة للمدن، والتوسع في معالجة وإعادة استخدام المياه العادمة، وتوحيد الأجهزة المسئولة عن المياه في الدول وإعطائها الصلاحيات اللازمة لإعداد وتنفيذ سياسات مائية شاملة لمصادر المياه. وأخيراً، الطلب من الأمانة العامة دعوة المسئولين عن قطاعات المياه لدراسة توصيات المؤتمر ووضعها ضمن البرامج التنفيذية لدول المجلس.
وبالإضافة إلى ما تمخض عنه المؤتمر من مناقشات وتوصيات قيمة فهو ولكونه الملتقى العلمي الأول عن المياه في المنطقة، وفر فرصة للمشاركين للتحاور والمناقشة العلمية المفتوحة وتبادل الخبرات والتجارب بين المختصين من دول المجلس، وزيادة قنوات الاتصال بين الأفراد والمؤسسات المعنية بأبحاث المياه في المنطقة خصوصاً وفي العالم عموماً.
وسيتم في المقال القادم استكمال تتبع مسيرة الفكر والعمل الخليجي للمياه بعد ظهور جمعية علوم وتقنية المياه على الساحة الخليجية وتصاعد مؤشرات المشكلة المائية في دول المجلس
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1507 - السبت 21 أكتوبر 2006م الموافق 28 رمضان 1427هـ