مفارقات ثلاث تواجه السياسة الأميركية داخلياً وخارجياً. وقراءة المفارقات تستدعي المزيد من الانتباه للتفصيلات. ففيها «يكمن الشيطان» كما يقال.
المفارقة الأولى داخلية صرف. وهي تتعلق بموضوع انتخابات الكونغرس النصفية في الأسبوع الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني. والثانية خارجية وداخلية، وهي تتصل بموضوع العراق وانعكاسات ذاك الاحتلال على شعبية الحزب الجمهوري. والمفارقة الثالثة خارجية وهي تتناول موضوع إيران والملف النووي وأسلوب التعامل مع تطوراته.
هذه المفارقات الثلاث تشترك في عناوين عامة تتصل ببعضها تحت خط عريض يطاول الاستراتيجية الأميركية في ظل عهد جورج بوش. ولكنها في المضمون تنفصل عن بعضها وتتجه نحو منعطفات ليس بالضرورة لها أن تنتهي في مخرج واحد. المفارقة الأولى تتحدث عن احتمال فشل الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية وفوز الحزب الديمقراطي بغالبية مريحة في مجلسي الشيوخ والنواب. وهذا الاحتمال بات شبه مؤكد في سياق النتائج التي أسفرت عنها استطلاعات الرأي.
المفارقة الثانية تتناول موضوع أزمة الاحتلال الأميركي للعراق وظهور معارضة قوية لإدارة بوش على المستويين: الشارع والنخبة. فالشارع لم يعد متحمساً لتلك الادعاءات اليومية بالنجاح والبطولات الوهمية. والنخبة أخذت تتجرأ على كشف أسرار الحرب والغوص في تفصيلات مؤذية تربك إدارة واشنطن وتعطل عليها مواصلة سياستها التي وصلت إلى حائط مسدود.
والمفارقة الثالثة تتعلق بمعالجة الملف النووي الإيراني والأسلوب المتبع في التعامل مع مسألة حساسة ازدادت خطورة بعد التجربة النووية التي أقدمت عليها كوريا الشمالية. فهل تصمت واشنطن على مشروع «تخصيب اليورانيوم» وتستمر طهران بتطويره وصولاً إلى النهاية أم تتحرك لاحتواء المشكلة وإذا تحركت ما هو المدخل للموضوع وكيف يمكن الخروج من الأزمة في حال وقع المحذور؟
لاشك في أن المفارقات الثلاث تقع تحت عنوان مشترك يطرح أسئلة كثيرة عن فشل المشروع الأميركي الذي قاده الحزب الجمهوري في السنوات الخمس الماضية. إلا أن العجيب في الموضوع هو إصرار إدارة بوش على عزل الملفات الثلاثة عن بعضها بأسلوب استعلائي يشير إلى «قراءة جمهورية» مختلفة. فالرئيس الأميركي وأعوانه من وزراء ومستشارين يواصلون التعاطي مع الملفات الثلاثة بصفتها قضايا منفصلة عن بعضها. فالانتخابات مسألة داخلية برأي الإدارة وهي موصولة بمشكلات كثيرة منها انعكاسات الحرب على العراق. فالحرب أسهمت جزئياً في تعديل مزاج الشارع، ولكن هناك جملة أسباب أخرى لعبت دورها في قلب الطاولة على الرئيس وحزبه وأولها المسألة الأخلاقية وتورط قيادات جمهورية رئيسية فيها.
والحرب على العراق تقرأ الإدارة منطقها من زاوية مختلفة. فالرئيس لا يرى في احتمال انجرار بلاد الرافدين إلى حرب أهلية مشكلة تتحمل مسئوليتها الولايات المتحدة. كذلك لا يرى أن المجازر اليومية التي تقع حصلت بسبب الاحتلال وتقويض الدولة. كذلك لا يرى بوش أن فشل واشنطن في تركيب ذاك «النموذج» السحري يعتبر صفعة لبرنامج «الديمقراطية» في «الشرق الأوسط». فكل هذه السلبيات لا تعتبرها الإدارة نتيجة لفشل سياستها وإنما هي نتاج موروثات اجتماعية وعناصر محلية كانت موجودة سابقاً وانفجرت دفعة واحدة بعد إطلاق «موجة الحرية» أمام الناس.
وأزمة العلاقة مع إيران تنظر إليها إدارة بوش من زاوية مختلفة لا تتصل بسياسة التخويف والإرهاب التي اعتمدتها واشنطن ضد دول الجوار. فالأزمة برأي أميركا مستقلة عن تداعيات الملف العراقي وانهيار صدقية السياسة التي حاول الاحتلال ترويجها في المنطقة بعد سقوط بغداد في العام 2003.
سياسات مفارقة
هذه المفارقات الثلاث أنتجت سياسات مفارقة لا تتصل ببعضها. فاحتمال خسارة الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية لا تعتبره إدارة بوش صفعة لسياسته الداخلية أو رسالة موجهة من الجمهور تعترض على استراتيجيته في الخارج. وبناء عليه يتصرف الرئيس الأميركي سياسياً باستقلال عن النتائج المتوقعة من الانتخابات وبالتالي فهو لا يربط بين منطق الرسالة الداخلية وأسلوب معالجته للقضايا الدولية.
المنطق نفسه ينطبق على العراق. فالرئيس لا يعتبر أن الفشل يستدعي الانسحاب أو حتى التفكير بالانسحاب. فالفشل برأيه ليس للقوات الأميركية التي نجحت في خطتها الحربية وإنما للبديل الذي راهنت عليه وانتهى به الأمر إلى نتائج مخيبة للآمال. ولهذا تعاملت إدارة الرئيس بخفة مع تلك التسريبات الصحافية التي صدرت بشأن تقرير جيمس بيكر المتوقع أن يناقش وينشر رسمياً في الأسابيع أو الشهور المقبلة. فالتقرير يقرأ النتائج ويقترح الحلول وهذا لا يعني كما قال وزير الدفاع دونالد رامسفيلد «إن أميركا لم تعد تملك القوة لخوض المزيد من الحروب وتسجيل انتصارات عسكرية». فهذا المنطق كرره بوش في تصريحاته، وكذلك نائبه ديك تشيني الذي أشار إلى أن الخسائر الميدانية لا تفضي بالضرورة إلى اتخاذ قرار الانسحاب.
الأمر نفسه يمكن سحبه في سياق الملف الإيراني وموضوع التهويل من المخاطر النووية على المنطقة وأمن «إسرائيل». فالإدارة في هذه المسألة لاتزال تخادع وتناور بغية نقل الملف إلى مجلس الأمن وإصدار قرار استباقي يتعلق بهذا الشأن. ولذلك تحاول واشنطن عزل اختلاف الملف الإيراني السلمي عن الملف الكوري العسكري والتعامل معهما على سوية واحدة من دون تمييز بينهما. كذلك تحاول إدارة «البيت الأبيض» فصل تداعيات احتلال العراق وسلبيات النتائج عن انهيار الثقة الدولية والإقليمية بالاستراتيجية الأميركية وذريعة مكافحة «شبكات الإرهاب».
كل هذه السياسات المفارقة تضع سلسلة علامات استفهام وتعجب عن السلوك المحتمل أن تلجأ إليه إدارة بوش في حال سقط الحزب الجمهوري في الانتخابات التشريعية النصفية. المنطق يقول إن الخسارة لابد لها أن تترك تأثيرها الداخلي والخارجي على سياسة «البيت الابيض» إلا أن المؤشرات تدل على وجود نوع من الاستهتار بالنتائج. فالإدارة لا تربط منطقياً بين الخسارة والربح بل تتجه نحو الدفع باتجاه المزيد من الأخطاء. كذلك يقول المنطق إن الفشل في العراق يعني التردد في عدم تكرار المغامرة في منطقة أخرى حتى لا تكون الثمار فاسدة كما هو واقع الأمر في بلاد الرافدين. إلا أن التصرفات العسكرية في منطقة الخليج تشير إلى تحركات غير مريحة ترجح انزلاق واشنطن إلى تجربة ليست بعيدة عن الفضاءات الدولية التي سبقت اجتياح العراق.
هناك إذاً مفارقات ثلاث تتحكم الآن في السياسة الأميركية الأولى هي فشل الحزب الجمهوري في الانتخابات، والثانية هي ارتفاع الأصوات الداعية للانسحاب من العراق، والثالثة هي تضخم الحشود العسكرية البحرية الأميركية في مياه الخليج. فهذه المفارقات موجودة وتشترك كلها في عنوان عريض واحد ولكنها في التفصيلات مختلفة وتستدعي الانتباه لذاك «الشيطان» الذي يكمن في عناوينها الفرعية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1507 - السبت 21 أكتوبر 2006م الموافق 28 رمضان 1427هـ