هذا يوم القدس؛ المدينة المقدسة في التاريخ في امتداد الرسالات وحركة الرسل، وفي القضية المتمثّلة بفلسطين الأرض والإنسان، وفي الاغتصاب السياسي والأمني من خلال احتلال اليهود لها ولما حولها، وفي اضطهاد الإنسان الفلسطيني بالقتل والتجويع والأسر والتشريد، في عالم عربي تناساها نتيجة التزامه بـ «إسرائيل» الدولة، وفي أفق دولي يتلاعب بالحلول المطروحة لديه في شأنها بما يعقّد المشكلة، وبالأحلام الاستقلالية للدولة الفلسطينية من خلال خارطة الطريق، بما تتحرك به اللعبة الدولية في عمليّة خداع للشعب الفلسطيني، وشروط تعجيزية، وإخضاعه لالتزام سياسيّ بـ «إسرائيل» من دون أية مكاسب مستقبلية. هذا إضافةً إلى التعقيدات الداخلية في سلطة تخضع لشروط «إسرائيل» وأميركا في أكثر من وعود سرابية، وفي حكومة يتآمر الاستكبار العالمي والعبث العربي على إسقاطها، بالرغم من حصولها على ثقة الأكثرية الشعبية.
هذا يوم القدس الذي كان مسجدها أولى القبلتين، ومسرى النبي محمد (ص)، حيث تلتقي الديانات في ساحاتها، لتؤكد وحدتها في خط التوحيد والإنسان.
إن المطلوب في هذا اليوم، أن ينطلق العالم الإسلامي والعالم المتحضر الإنساني، لإبقاء القدس في الوعي الروحي والسياسي، وفي حركة الجهاد ضد الاحتلال اليهودي الوحشي، ولتوعية الرأي العام لكشف المجازر الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ولتحريك الفلسطينيين نحو الوحدة التي يلتقون فيها على التحرير بالمقاومة المدروسة في الخط السياسي والعسكري، من أجل أن تعود القدس ـ الرمز والقضية إلى أهلها في آفاق الحرية الإنسانية الواسعة.
وعلينا أن نعرف أن الجيش اليهودي يهدد بقصف جميع أفراد الشعب الفلسطيني، حتى الذين لم يطلقوا الصواريخ على المستوطنات، لأنهم لا يزالون يعيشون عقدة الهزيمة أمام المقاومة في لبنان ويخافون تجددها.
وعلى العالم أن يقف لإدانة جرائم الحرب الإسرائيلية في لبنان، والّتي تجسّدت بالمجازر الوحشية التي دللت على الحقد اليهودي ضد العرب والمسلمين. وعلى الشعب الفلسطيني أن يستوعب دروس التجربة المرّة التي لا تزال تفرض نفسها عليه، وأن يكف عن التراشق والسجال السياسي والاتهامات التي يطلقها فريق هنا وفريق هناك، بما قد يؤدي إلى فتنة داخلية وحرب أهلية.
وفي جانب آخر، فقد دعا الرئيس بوش بعض المسلمين في الولايات المتحدة الى حفل إفطار أشاد خلاله بالإسلام، وقال إنه «دين يبعث على الأمل والمواساة لأكثر من مليار مسلم حول العالم، وإنه سما على الانقسامات العرقية والعنصرية، وأدَّى إلى ثقافة غنية بالعلم والآداب والعلوم». إنه كلام جميل، ولكننا نلاحظ في الوقت نفسه، أن الرئيس الأميركي وقّع على قانون يفسح في المجال للتحقيق مع المشتبه بهم في قضايا الإرهاب في شكل لا إنساني، ومن ثم محاكمتهم أمام محاكم عسكرية، والكل يعرف أن هذه الأمور تطاول المسلمين بشكل مباشر في امتدادات السياسة الأميركية، وخصوصاً الجاليات الإسلامية في أميركا.
وفي موقع آخر، فإن الرئيس الأميركي يتحدث عن رفضه تقسيم العراق إلى ثلاثة مواقع للحكم الذاتي، معتبراً أن ذلك يؤدي إلى الفوضى بأكثر مما يشهدها في الوقت الحاضر، لكن السؤال هو: من الذي وضع العراق في هذه الفوضى وفي هذا المناخ الوحشي من القتل، بحيث بلغ عدد القتلى من العراقيين منذ الاحتلال أكثر من ستمئة ألف قتيل؟ أليس الرئيس بوش وإدارته السبب في ذلك كله؟ ثم، إن الرئيس الأميركي يقول: «إننا قلقون من تدخل إيران في العراق»، ولكن العالم العربي والإسلامي لا يزال قلقاً من التدخل الأميركي في المنطقة كلها، بما يشكل الخطر على مصالحها الاستراتيجية، إضافة إلى الاحتلال المباشر للعراق.
وفي الموقع العراقي، هناك مؤتمر إسلامي سينعقد في مكة لمرجعيات إسلامية سنية وشيعية، لتأكيد وثيقة قرآنية ونبوية تنصّ على حرمة أموال المسلمين ودمائهم وأعراضهم، وضرورة توطّد الأمن في المنطقة والمحافظة على دور العبادة للمسلمين وغير المسلمين، وحماية حرية المواطنين من الخطف والتهجير.
إننا نأمل نجاح هذا الاجتماع من خلال خطة عملية موضوعية تدرس الأمور بطريقة واعية، وتطلق الصوت عالياً ضد الاحتلال الذي هو السبب في أكثر المشاكل الدموية، وضد التكفيريين الذين يستحلّون دماء المسلمين ويدمّرون مساجدهم ومقدساتهم جهلاً وتخلفاً وحقداً وعدواناً، هذا إضافةً إلى تركيز الوحدة الإسلامية على قاعدة شرعية ثابتة، والوحدة الوطنية على أساس المصلحة العراقية العليا، ودراسة الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية بوعي سياسي كبير.
أما لبنان، فإننا نلاحظ كيف تستمر الخروقات الإسرائيلية في الجو والبر بما يهدّد سيادته، فيما القوات الدولية في حالة استرخاء، إذ تكتفي بالإحصاء والمراقبة، حتى إن أمريكا التي تحدثت مع «إسرائيل» بالامتناع عن الطلعات الجوية، لم تضغط عليها عندما رفضت ذلك، وكذلك، فإن «إسرائيل» لم تحترم التهديد الفرنسي في التعرض للطيران الإسرائيلي. ولم تحرك الأمم المتحدة ساكناً حول ذلك، ولم نجد هناك موقفاً قوياً للحكومة اللبنانية، بل إنها لا تزال تحت تأثير الوعود بالحل والانسحاب دون جدوى.
ويتحرك الحديث عن التهدئة الداخلية، وربما يسعى البعض لتلطيف الأجواء والحوار والتواصل، ولكن ذلك كله لا ينطلق في ظروف سياسية واقعية، أو من حلول حقيقية، لأن البلد دخل في نطاق الوصاية الدولية المباشرة، ونخشى أن يتحول إلى ما يشبه المحمية الدولية في نطاق تطويق دولي للبحر، وإعلان عن إدارة للمجال الجوي، وفي خطة خفية لتحييد لبنان من جهة، وإراحة «إسرائيل» من جهة أخرى، وتعقيد العلاقات العربية والإسلامية بفعل الضغوط الأمريكية، وهو الأمر الذي أغرى رئيس حكومة العدو في توجيه دعوة علنية لرئيس حكومة لبنان، من دون أن يتلقى الرد المناسب، أو أن يكون الرد بحجم شراسة العدوان الإسرائيلي.
ويبقى اللبنانيون في همومهم المعيشية، ولا سيما في موسم المدارس، وفي فصل الشتاء، وفي الحالة القاسية للبطالة وللمخاوف المستقبلية للوضع السياسي الذي قد يشتد في حركيته في صراع المعارضة والموالاة، ولا سيما في مسألة الدعوة إلى حكومة الوحدة الوطنية التي يراد للبنانيين الالتقاء عندها من أجل التواصل والتكامل على قاعدة السيادة والحرية والاستقلال، بعيداً عن كلمات التخوين من هنا والاتهام من هناك، ولا سيما في الأجواء العاصفة في المنطقة التي تزيدها السياسية الأميركية خطورة على كل المستويات
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1506 - الجمعة 20 أكتوبر 2006م الموافق 27 رمضان 1427هـ