تبذل الدول المصدرة والمستقبلة للمهاجرين جهودا كبيرة للتنسيق والتعاون الأمني ومراقبة الحدود وتحسين الظروف السياسية والاجتماعية، لكن هذه الخطوات ـ حسبما يرى مراقبون ـ تبقى محدودة وغير كافية لتنظيم الهجرة، والحيلولة دون تنامي الهجرة غير المشروعة.
وبجانب هذه الإجراءات الجزئية، فإن محاربة الهجرة غير المشروعة، يتطلب ـ على المدى الطويل ـ مواجهة الأسباب الاقتصادية التي تقود إليها، وفي مقدمتها الفقر والبطالة، وضعف التنمية. من خلال استراتيجية للقيام بإصلاحات عميقة في الدول المصدرة، وتنفيذ عملية تنمية مستدامة.
المعالجة الأمنية لا تحل المشكلة
والملاحظ أنه عند انفجار أزمة الهجرة والمهاجرين، ترتفع الأصوات داخل مؤسسات صنع القرار في أوروبا مطالبة باتباع المزيد من الإجراءات الأمنية. هذا ما حذر منه رئيس الاتحاد الإفريقي في بروكسل ألفا عمر كوناري الذي رأى «بأن المعالجة الأمنية لا تحل المشكلة»
ويبدو أن كوناري كان يشير من بعيد أو قريب إلى اجتماع المجلس الاستشاري الأوروبي بإشبيلية في يونيو/حزيران 2002 ، الذي تمّ تكريس حظ وافر من النقاشات التي سيطرت عليه إلى سياسة أوروبيّة مشتركة في مجال الهجرة و اللجوء، و لم يتم التطرق إلاّ هامشيّا إلى حقوق المعنيّين بالأمر أي المهاجرين. ففي كل اجتماع أوروبي يتم تخصّيص حصّة الأسد في المداولات إلى مراقبة الحدود، وإمكانات العودة إلى أرض الوطن، إضافة إلى التعاون الأمني من أجل محاربة الهجرة السرية. وكانت المفوضية الأوروبية قد نجحت حديثاً في التوصل إلى مقترحات عرضتها على البلدان الأعضاء لإقامة «إستراتيجية أوروبية من أجل إفريقيا». وتشمل المقترحات زيادة المعونات بشكل تدريجي. فوجدناها تقفز من 17 مليار يورو سنويا إلى 25 مليار ابتداءً من العام 2010. وتأتي المقترحات في نطاق الالتزامات التي قطعها الاتحاد الأوروبي على نفسه على الصعيد الدولي وفي اجتماعات البلدان الغنية الثمانية الصيف الماضي في اسكتلندا، من أجل تحقيق أهداف الألفية للتنمية.
من جانب آخر، فقد انخفضت الهجرة إلى الغرب عموماً بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 نتيجة للقيود الصارمة التي وضعت على الهجرة وخصوصاً على المهاجرين العرب المسلمين.
وقد أدت قوانين مكافحة الإرهاب Anti Terrorist Act والقانون الوطني Patriot Act في الولايات المتحدة الأميركية وكندا وبعض الدول الغربية واستراليا في الحد من الهجرة إلى هذه الدول، ودفعت ببعض المهاجرين العرب والمسلمين خصوصاً إلى الهجرة العكسية إما إلى أوطانهم الأصلية أو إلى مناطق جذب أخرى يتوافر فيها الأمن والحرية والعدالة.
معاهدة برشلونة وبرنامج ميدا
لكن هناك بادرة أوروبية تبشر بالخير في هذا الإطار، تلك هي إعلان برشلونة، الذي يمكن أن يعتبر ، نموذجا جيدا لاستراتيجية أوروبية تسعى إلى حل مشكلة الهجرة بشكل إنساني صحيح. نشير هنا إلى التعاون الاقتصادي الأوروبي المتوسطي وفقاً لبنود معاهدة برشلونة في العام 1995، عندما وقعت 12 دولة متوسطية - أغلبها دول عربية - مع دول الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة - في ذلك الوقت - معاهدة تهدف في النهاية إلى إنشاء منطقة تجارة حرة بين تلك الدول بحلول العام 2010، ورفع المستوى الاقتصادي لدول جنوب المتوسط.
ونتيجة لمعاهدة برشلونة طرح الاتحاد الأوروبي برنامجه الأول للمعونة والتعاون، المعروف اختصارا باسم «ميدا لتطوير الوضع ، ودفع عمليات التنمية الاقتصادية، ودعم الروابط الاقتصادية بين دول الاتحاد والدول المتوسطية».
لكننا هنا لا بد أن نقرأ العولمة بالشكل الصحيح البعيد عن الانفعالات. فالعولمة ما فتئت تعمق الهوة بين دول الشمال ودول الجنوب في مستوى التقدم الاقتصادي وخصوصاً في ميدان التكنولوجيا المتطورة. هذا الوضع أدى إلى تقسيم جديد للأنشطة الاقتصادية على المستوى العالمي وتمركز جل أنشطة الخدمات التكنولوجية الحديثة في دول الشمال ومن ثم ظهور الطلب على اليد العاملة المهاجرة ذات المستوى الثقافي والعلمي المرتفع. وهكذا أخذت دول الاتحاد الأوروبي تستقبل أعداداً متزايدة من الأساتذة الباحثين، والمهندسين والأطباء والمحامين الإعلاميين... إلخ
كما شرعت في نهج سياسات انتقائية في ميدان الهجرة لتتمكن من استقطاب بعض المتخصصين في مجالات معينة من العلم والمعرفة (البطاقة الخضراء بألمانيا Green Card )
هذه السياسة الانتقائية ينتج عنها «جلب للأدمغة «من دول الجنوب وجعل عدد كبير من الأشخاص الآخرين يقعون في وضعية السرية واللاقانون. هذه الحال هي التي تدفع بعض الدول، بين الفينة والأخرى إلى تسوية الوضعية القانونية لبعض المهاجرين السريين من طرف الدول الأوروبية، للعقول التي تحتاجها. لكن هذه التسويات تشمل أيضاً قطاعات قد لا ترغب تلك الدول في تطبيق التسوية ذاتها عليهم. وتعتبر عمليتا التسوية في فرنسا في 82 – 1983 و1997 نموذجاً جيداً على مثل تلك الحالات. فقد كان 30 في المئة يعملون ممن يعملون في قطاع البناء ثم بعده المطاعم وخدمة الأشخاص المسنين، والأشغال المنزلية والنسيج، بحاجة إلى ترتيب أوضاعهم القانونية. وذلك ما نفذته، وعلى نحوصحيح السلطات الفرنسية.
الاندماج
ومن الظواهر المواكبة للهجرة هي رغبة المهاجر العربي في الاندماج مع المجتمع الذي حط الرحال عنده. إن المهاجر لا يحصر نفسه في إطار العمل الذي يزاوله، بل أصبح، أيضاً، يرغب في الاندماج أكثر هو وباقي أفراد أسرته داخل مجتمع الاستقبال، ويريد أن يتمتع بمواطنة كاملة (خصوصاً بالنسبة إلى الجيلين الثاني والثالث) والتي من خلالها يؤدي ما عليه من واجبات ويحصل على ما له من حقوق خاصة على مستوى السكن والتعليم والعمل.
الكل يقر بأنه على الحكومات أن تلعب دوراً رئيسياً وفعالاً في مجال مسلسل اندماج المهاجرين وكذا ربط وتوطيد العلاقات ما بين مختلف المجموعات البشرية المتواجدة في دولة ما.
كما أن هذه المسألة لا تخص المهاجرين والأقليات فحسب بل وتشمل أيضاً مجتمعات دول الاستقبال بأكملها، والتي يجب أن تتفاعل بطريقة إيجابية وبذل الجهود من أجل التكيف والتواصل مع المهاجرين.
على المستوى الرسمي يصرح المسئولون الأوروبيون باستمرار بأن السلطات العامة تعمل على أن يتمتع المهاجرون بالحقوق نفسها المخولة لمواطني البلدان المستقبلة وكذا تكافؤ الفرص وخصوصاً فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في ميادين التعليم والصحة والسكن والعمل.
لكن وعلى رغم كل ما يقوم به المهاجرون في تنمية دول الاستقبال فإنهم يعانون من عدة أشكال من التمييز والإقصاء في كل المجالات: السكن، التعليم والعمل والحقوق الاجتماعية والثقافية.
إن مشكلة عدم اندماج المهاجرين يتجلى أكثر في الميدان الاجتماعي إذ غالباً ما يكون هناك خلط بين الهجرة والإجرام. وتتفاقم الوضعية بالنسبة إلى ذوي الأصول العربية والمسلمة، فهناك أحكام وتصنيفات مسبقة إذ تلصق بهم تهم الإجرام والتطرف والإرهاب بطريقة اعتباطية.
إن المسئولين الأوروبيين واعون بأنه لا مناص لأوروبا من المهاجرين. لكن هناك من لايزال يجد صعوبة في المواءمة بين الحفاظ على الصفاء العرقي والثقافي والحضاري لأوروبا، وحاجة هذه القارة العجوز إلى الأجانب لتغطية النقص الدمغرافي والاستجابة لحاجات مختلف القطاعات الإنتاجية بكل أنواعها ومستوياتها.
كما أن هناك من يرغب في أن يكون المهاجر مجرد وسيلة وأداة لإنتاج السلع والخدمات وليس ككائن بشري له خصوصياته اللغوية والدينية والثقافية والتي يجب الاعتراف بها والتعايش معها. فهل نحن أمام ظاهرة نوع من الاستعباد للآخرين خلال الألفية الثالثة؟
إن عملية اندماج المهاجرين، أو الذين هم من أصول مهاجرة، عملية معقدة تستدعي تضافر جهود كل الفاعلين في الحقل السياسي والثقافي والإعلامي، والتعليمي وكذا مختلف مكونات المجتمع المدني من أجل نشر وتعميق وتطبيق مبادئ التسامح والاعتراف بحق اختلاف المهاجرين والأقليات الموجودة في بلد واحد وقبول هذا الاختلاف والتعايش معه.
وهذا ما حاولت بعض الدول الأوروبية والعربية، على حد سواء، القيام به من خلال مؤتمرات وورش عمل حوار الحضارات التي تصب جميعها في، في بعض أنشطتها وجوانبها، في طاحونة البحث عن إطار لدمج المهاجرين العرب واستيعابهم في المجتمعات الأوروبية، بشكل تدريجي مربح للجهتين.
مرصد عربي للهجرة
وعلى الجانب العربي، بدأت منظمة العمل العربية في إنشاء أول مرصد عربي للهجرة؛ بهدف التعرف المُستمر والمُنظم على أوضاع وتيارات الهجرة العربية إلى الخارج، وإنشاء قاعدة بياناتٍ تغطي كل البلدان العربية لمعرفة حجم وتيارات الهجرة، وحصر شامل بالخبراء العرب المُتخصصين في مجالات الهجرة، وحجم الكفاءات العربية الموجودة خارج الوطن العربي؛ حتى يمكن الاستفادة منها، ووضع برامج محددة، وآلية معينة لمعالجة البيانات المتعلقة بالهجرة، وتأسيس موقع متطور عن الهجرة على شبكة الإنترنت، ووضع منهجية واضحة لمتابعة سياسات وتشريعات الهجرة، وإصدار تقرير عربي دوري بشأن أوضاع ومشاكل المهاجرين.
وأعلن المدير العام لمنظمة العمل العربية إبراهيم قويدر أن المرصد العربي للهجرة سيتم الانتهاء من تنفيذه بالكامل - خلال 3 سنوات - وبموازنة إجمالية متصاعدة تصل إلى 551 مليون دولار.
إلى أي حد تنجح هذه الجهود أوروبية كانت أم عربية؟ ومتى سيدرك الطرفان أن الأفضل لكليهما أن تتحول سياسات المواجهة وتبادل الاتهامات إلى مشروعات مثمرة تخدم الطرفين؟ هذا ما ينبغي أن يتناوله الطرفان وعلى قدم المساواة
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1506 - الجمعة 20 أكتوبر 2006م الموافق 27 رمضان 1427هـ