العدد 1506 - الجمعة 20 أكتوبر 2006م الموافق 27 رمضان 1427هـ

كتابة في الاختلاف... الحجّاج: المرء لا يرغب عن قوله

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في الأصل، الاختلاف منجاة من الإحن وتراكم الضغائن، وخصوصاً إذا ما تم بوعي وفهم وإدراك كبير. الأصل في الاتفاق ترك مساحة كبرى يحتفظ بها كل واحد منا بحقه في الاختلاف وإن تم التلاقي في الكثير من المشترك.

لا أخشى الذين يختلفون وأختلف معهم بوعي كبير. ما أخشاه هم أولئك الذين يريدون لي الاتفاق معهم على طول المسار، وأخشى على نفسي أكثر حين أصل - في لحظات ضعف - الى إقناعي بالحاجة الكلية الى الاتفاق مع الذين يختلفون معي.

هل ثمة ثقافة قائمة ضمن هذه الرؤية والطرح؟ طبعاً لا. والدليل هذا التخبّط والتأزيم في الوسط الذي تنشأ وتتراكم فيه مثل تلك العلاقات والحالات والنظر اليهما.

***

بالرجوع الى طبيعة عادات الثقافة المؤسِسة للاختلاف، لا يمكن الوقوف على نماذج - إلا ما ندر - تُشبع مثل ذلك التوجه، وتبثه في الثقافة الراهنة. ثمة استلاب ومصادرة وتعميم للرأي الواحد، الرأي الذي يملك إمكانات قوته في المصادرة.

مثل ذلك الواقع في تثبيت الرأي، والصوت، والنظر، والقيمة الواحدة، لا يمكن أن يشيع حالاً من التواؤم في الوسط الذي يحيا فيه. بمعنى آخر، لا يمكن أن يدفع بذلك الوسط إلى مزيد من تراكم الخبرات وتلاقحها مادام مصرّاً على اللون والشكل والصوت الواحد.

***

أفهم الاختلاف الحرّ، محاولة واعية لتقديم تنازل لا ينال من الثوابت وأسس القناعات شيئاً. أفهمه محاولة لتأسيس اتفاق، ومحاولة جادّة لفهم يدفع الى مراجعات ظلت في حكم المقدّس، ومثل تلك المراجعات - في حال تحققها - تدفع باتجاه تفهّم تفاصيل مهملة ومغيّبة، وأحياناً ملغاة بسذاجة تامة، ومثل ذلك الفهم لاشك سيدفع باتجاه تأسيس مرونة في العلاقة تتيح من الفضاء الكثير والشاسع من نقض قناعات ومقولات ظلت لردح من الزمن في عداد اليقين والثابت الذي لا يمكن المساس به، ويكاد يكون على مقربة من حدود وهيبة المقدّس.

***

أن تختلف، فذلك يعني أن تملك شجاعة إتاحة مساحة - ظللت تؤمن أنها وقفاً وحكْراً عليك - للمقابل لك. مثل ذلك الموقف - في حال تحققه - يكشف عن شجاعة بالغة، ووعي عميق في التعاطي مع مثل تلك القيمة.

***

هل نحتاج الى مسح تاريخي للوقوف على نماذج مخزية ومحبطة في تلقي وفهم والتعاطي مع تلك القيمة؟

ورد في الجزء الأول من «مروج الذهب» لعلي بن الحسين بن علي المسعودي «حدّثنا المنقري، عن جعفر بن عمرو الحرصي، عن مجدي بن رجاء، قال: سمعت عمران بن مسلم بن أبي بكر الهذلي يقول: سمعت الشعبي يقول: أُتي بي الحجّاج موثقاً، فلما دخلت عليه استقبلني يزيد بن مسلم فقال: إنّا لله يا شعبي، على ما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم شفاعة، بؤْ للأمير بالشرك (1) وبالنفاق على نفسك، فبالحري أن تنجو منه. فلما دخلت عليه استقبلني محمد بن الحجّاج، فقال لي مثل مقالة يزيد. فلما مثلت بين يدي الحجّاج قال: وأنت يا شعبي فيمن خرج علينا وكثّر. قلت: نعم، أصلح الله الأمير ،أخزن بنا المبْرَك (2) وأجدب بنا الجناب، وضاق المسلك، واكتحلنا السهاد، واستجلسنا الخوف، ووقعنا في فتنة لم نكن فيها بررة وأتقياء، ولا فجَرَة أقوياء. قال: صدق، والله ما برّوا بخروجهم علينا، ولا قوّوا اذ فجروا، أطلقوا عنه.

قال الشعبي: ثم احتاج الى فريضة، فقال: ما تقول في أختٍ وأمٍّ وجَدّ؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله (ص): عبدالله، وزيد، وعلي، وعثمان، وابن عبّاس. قال: فماذا قال فيها ابن عبّاس، فلقد كان متقياً؟ قلت: جعلَ الأب أباً، وأعطى الأم الثلث، ولم يعطِ الأم شيئاً. قال: فماذا قال فيها عبدالله؟ قلت: جعلها من ستة، فأعطى الأخت النصف، وأعطى الأم السدس، وأعطى الجد الثلث. قال: فماذا قال فيها زيد؟ قلت: جعلها من تسعة، فأعطى الأم ثلاثة، وأعطى الأخت سهمين، وأعطى الجد أربعة. قال: فما قال فيها أمير المؤمنين عثمان؟ قلت: جعلها أثلاثاً. قال: فما قال فيها أبوتراب؟ قلت: جعلها من ستة، أعطى الأخت النصف، وأعطى الأم الثلث، وأعطى الجد السدس. قال: فضرب بيده على أنفه، وقال: إنه المرء لا يرغب عن قوله. ثم قال للقاضي: أمّرها (3) على مذهب أمير المؤمنين عثمان.

وحدّث المنقري، عن العتبي، عن اسحق بن ابراهيم بن الصباح بن مروان - وكان مولى لبني أمية من أرض البلقاء من أعمال دمشق، وكان حافظاً لأخبار بني أمية - قال: لبس سليمان يوم الجمعة في ولايته لباساً شُهر به، وتعطّر، ودعا بتخت فيه عمائم، وبيده مرآة، فلم يزل يعتمّ بواحدة بعد أخرى حتى رضي منها بواحدة، فأرخى سدولها، وأخذ بيده مخصرة (4) وعلا المنبر ناظراً في عطْفيْه (5) وجمع جمعه، وخطب خطبته التي أرادها، فأعجبته نفسه، فقال: أنا الملك الشاب، السيد المهاب، الكريم الوهاب. فتمثلت له جارية من بعض جواريه، وكان يتحظاها (6) فقال لها: كيف ترين أمير المؤمنين؟ قالت: اراه مُنى النفس، وقُرّة العين، لولا ما قال الشاعر: «من البحر الخفيف»

أنت نعْمَ المتاع لو كنتَ تبقى

غير أنْ لا بقاء للإنسانِ

أنتَ منْ لا يريبنا منك شيءٌ

عَلِمَ الله غير أنك فاني

فدمعت عيناه، وخرج على الناس باكياً، فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بالجارية، فقال لها: ما دعاكِ الى ما قلت لأمير المؤمنين؟ قالت: واللهِ ما رأيتُ أمير المؤمنين اليوم، ولا دخلت عليه. فأكْبَرَه ذلك، ودعا بقيّمة جواريه، فصدّقتْها في قولها، فراع ذلك سليمان، ولم ينتفع بنفسه، ولم ينتفع بعد ذلك إلا مديدة (7) حتى توفي. وكان سليمان يقول: أكلت الطيّب، ولبست الليّن، وركبت الفارِه، ولم يبق لي لذة الا صديق أطرح فيما بيني وبينه مؤونة التحفظ

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 1506 - الجمعة 20 أكتوبر 2006م الموافق 27 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً