1- قد يتشابه الناس في نواحٍ كثيرةٍ، حتى أن درجة التشابه بينهم شكَّلت أساساً لعدد من العلوم، دفعت بالباحثين فيها إلى التعرف على عموم الناس عبر التعرف على خصائص فئات معينة.
ولكنّ وراء هذا التشابه الشكلي، والعميق، تبايناً كبيراً يعسر علينا أن نتعرف على جميع جوانبه.
وقد صارت (البينونة) بين الناس جزءاً من (كينونة) كل واحد منهم. ولعل قول الله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً» (الإسراء: 84)، يشير إلى هذا الأمر.
2- وهذا التفاوت قد يوظف إيجابياًّ، كما قد يوظف سلبياًّ، فيكون داعياً بعضهم نحو النشاط وبُعد الهمة، فيما يقع في وهم آخرين أنه سبب للتقاعس. فينعكس الأمران على طبيعة النشاط عند هذا وذاك. وورد في الأثر عن الإمام الحسن بن علي (ع) تصنيفه للناس، بقوله: إن الناس أربعة، فمنهم: من له خلاقٌ (أي نصيب) وليس له خُلُق. ومنهم: من له خُلُق وليس له خلاق. ومنهم من ليس له خُلُق ولا خَلاق. فذاك أشرّ الناس. ومنهم: من له خُلُق وخلاق فذاك أفضل الناس.
فالمزاج – إذاً – عامل حاسم في توفر الإنسان على الرزق والتوفيق. وهذا المزاجُ قابلٌ للتغيير ، في مساري الإيجاب السلب معاً. وهذا ما يقرره القرآن «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد: 11).
ونؤكد أن المزاج قابلٌ للتغيير، قرآنياًّ، لأن معادلات القرآن تقتضيه، ولنستعرض ذلك ضمن ما يلي:
أ – الله سبحانه كلّف الناسَ بعمل الصالحات وتجنب السيئات، والتوبة من الخطايا والأخطاء. ب – التوبة والاستغفار الحقيقيان شكلٌ من أشكال التغيير في النفس الإنسانية على مستوى القناعات والممارسة. جـ - من أمهات الصفات الإلهية (الحكمة) التي تعني: وضع الأشياء في مواضعها. وتعني أيضاً: الإتقان. وليس من الإتقان، ولا من وضع الشيء في محله، مخاطبة (العاجز) عن التغيير بالتغيير. د – ومن أمهات الصفات الإلهية (العدل) وهو مكافأة المحسن على إحسانه ومجازاة الظالم على ظلمه. وليس من العدل أن يحاسب الإنسان على ما لا سبيل إلى تغييره، «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل: 90).
3– للقرآن دور وظيفي رئيسي بالنسبة إلى الإنسان، استعرضناه في حلقة سابقة، تقوم على أساسه نقله من واقع سيء إلى آخر حسن «فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ» (الزمر: 18).
4– ولأن الناس متفاوتون في إمكاناتهم من جهة، وفي إعمال تلك الإمكانات وتوظيفها من جهة أخرى. لأسبابٍ معرفيةٍ، ونفسيةٍ، ولعواملَ داخليةٍ أو خارجيةٍ. فقد جاء الأمر الإلهي بضرورة الاعتصام بالقرآن، وليس مجرد الاستحسان أو التغني به، فقال تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً» (آل عمران: 103). والمعتصمون بالقرآن هم أهله الحقيقيون. الذين جعلوا القرآن بين نواظرهم وفي مقدم مسيرتهم، فتلوه حق تلاوته. ولتسليط الضوء على ما يجب أن يكون عليه التفاعل بين الإنسان والقرآن نستعرض نصين اثنين:
الأول: ما روي عن الإمام الحسن بن علي (ع) قوله: ما بقي في الدنيا بقية غير هذا القرآن، فاتخذوه إماماً، يدلكم على هداكم. وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه، وأبعدهم منه من لم يعمل به وإن كان يقرأه.
فثمة إمامٌ، هو القرآنُ، ومأمومٌ، هو الإنسانُ. انتظمت العلاقة بينهما على أساس دستوري واضح أن المسيرة يقودها الإمام ومن خلفه المأموم «مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً، سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (يوسف: 40). وليس كل من قرأ القرآن كان من أهله فـ (رب تالٍ للقرآن، والقرآن يلعنه) كما ورد في الأثر.
النص الثاني: وروي عنه (ع) قوله: إن هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً، يقود قوماً إلى الجنة، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وآمنوا بمتشابهه. ويسوق قوما إلى النار، ضيعوا حدوده وأحكامه، واستحلوا محارمه، فنحن أمام فريقين: يسيران إلى اتجاهين مختلفين، أو قل: ينتهيان إلى نهايتين إحداهما جميلة، والأخرى بئيسة، وهذان الفريقان تحددت نهاية كل منهما تبعاً لطبيعة علاقته التفاعلية بالقرآن الكريم:
الفريق الأول: صاحب علاقة تفاعلية إيجابية، تمثلت في أنه سار خلف القرآن، وجعل زمامه بيد القرآن، وتحلى – بحسب النص – بصفتين أساسيتين: الصفة الأولى: التسليم للحق، فأحلَّ ما أحلَّ القرآن، وحرَّم ما حرَّم القرآن. لعلمه وما استقر في وجدانه «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (الإسراء: 9) فسرعان ما بادر بالعمل بهداياته، التي يُعد التحليل والتحريم من أبرزها. فانفتح على الحلال، وسد باب الحرام، فصنف نفسه ضمن المؤمنين والعاملين للصالحين لينال ما ناله أهل القرآن «وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً» (الإسراء: 9).
الصفة الثانية: التواضع، عملاً من هذا الفريق بـ (الواقعية)، التي تؤكد له يومياًّ أن ما خفي عنه أضعاف ما تبين له «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً» (الإسراء: 85)، لأن العالم أكبر من أن يتسع ذهنه لاستيعابه «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» (البقرة: 3). عملاً منه بذلك وقف أمام آيات القرآن (المتشابهة). والتي امتحن الله عباده بها، ليتبين من يتواضع بين يدي الله ومن يصر على أن يكون له القول الفصل في كل شيء. بلا فرق بين ما يقدر عليه وما يعجز عنه وصدق من قال (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه). ولكي تعرف قدر نفسك عليك بالعلم، كما كلّف من هو أفضل الناس وأعلمهم أن يطلب المزيد من العلم فوق ما علم، لأن التفاضل بين الناس عند الله إنما هي التقوى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات: 13)، والتي تعني فيما تعني الخشية من الله، الذي بدوره يتوقف على العلم «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» (فاطر: 28). ولأن العلم نعمة «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» (النحل: 53)، فيجب طلبها من الله «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» (طـه: 114). علاقة هذا الفريق بالقرآن تفاعلية إيجابية، وضعت كلاًّ منهما في مكانه الصحيح ليكون القرآن هادياً، والإنسان مهتدياً، والقرآن إماماً والإنسان مأموماً.
الفريق الثاني: وهو الذين تنكبوا الطريق أو ساروا فيه على غير هدى، فكان القرآن لهم بالمرصاد، إذ تبوؤوا ما ليس لهم فصاروا أمام القرآن، فما كان منهم إلا أن ساقهم إلى النار، بسبب قلبهم للمعادلة التي تفرض أن يكونوا مأمومين للقرآن، وهو إمامهم وأمامهم. (ويسوق قوماً إلى النار). فكان تفاعلهم مع القرآن سلبياًّ. وثمة معلمان لهذه السلبية، هما:
1 – الإهمال: فقد كانوا مهمِلين، بمعنى أن تعاليم القرآن لم تكن ذات أهمية في وجدانهم، ولا تجد في سلوكهم العملي صدى حسناً. فقد (ضيعوا حدوده وأحكامه) فلم يتبنوا قيمه النظرية التي من شأنها أن تبين له طريق الهدى، وتزيل عنه الغشاوة والعمى. ولم يسعوا إلى حسن استيعابها بالتبصر فيها، وفي مرحلة لاحقة نشرها حباً في الله وتضامناً مع أخيهم الإنسان، الذي لم يهتد سبيلاً. ولم يجسدوا أحكامه في واقعهم العملي. والتي من شأنها أن تحفظ للإنسان ما له وتبين له ما عليه.
2 – العدوان: وقد تطور الإهمال إلى حال من (العدوانية) يقع فيها هذا الفريق وذاك، حين يتحكم الهوى في المواقف، فقد (استحلوا محارمه). وبذلك يكونون قد تطاولوا على الذات الإلهية، التي من شأنها وحدها الحكم على هذا وذاك بالحلال والحرام، لأنه من مقتضيات: الملك أولاً، والعلم المطلق ثانياً، والعدالة المطلقة ثالثاً. والإنسان ليس مالكاً لشيء، إلا بمقدار ما يملكه الله، وليس عالماً بشيءٍ إلا في حدود ما علّمه الله، ولا هو عادل مطلقاً إلا إذا عصمه الله. فملكه وعلمه وعدالته، كل ذلك كسبيٌّ وليست ذاتية، فهو غير مؤهل «إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ» (الأنعام: 57)، ولا هو مخول أن يكون حاكماً: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» (يونس: 59)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1505 - الخميس 19 أكتوبر 2006م الموافق 26 رمضان 1427هـ