في مطلع القرن التاسع عشر بدأ المشرق العربي (بلاد الشام) يشهد تحولات عنيفة في علاقاته الاجتماعية أسهمت في نقل الجماعات الأهلية من فترة الهدوء إلى مرحلة القلق وعدم الاستقرار. هذا التوتر تأسس على مجموعة عوامل منها ما يتصل بضعف السلطنة العثمانية وتراجع سلطتها الرقابية المباشرة على رعاياها. وشكل الضعف المدخل السياسي لزيادة جرعة «التدويل» بسبب حاجة الباب العالي إلى مساعدات عسكرية (فنية، تدريبات، أسلحة حديثة) وقروض مالية لتمويل الحروب أو إقامة التحصينات والإنشاءات. فالحاجة الميدانية فرضت على السلاطين تقديم تنازلات أو القبول بتوقيع اتفاقات مع ملوك الغرب لتأمين تلك الضرورات الملحة مقابل السكوت على التدخلات الأجنبية والموافقة على تمرير علاقات «خاصة» بين الدول الاوروبية والمجموعات الأهلية (الدينية) غير المسلمة. وهذا التنازل شكل خطوة تراجعية استراتيجية، إذ اظهر السلطنة على أنها تميز بين الرعايا دينياً وأعطى «خصوصية» لشكل العلاقات بين دول الغرب وشركاته وتلك الجماعات الدينية غير المسلمة.
بدأت المسألة في القرن السادس عشر حين وافق السلطان سليمان القانوني على التوقيع على معاهدة خطيرة مع ملك فرنسا فرانسوا الأول أطلق عليها «الامتيازات الأجنبية». وشكلت هذه المعاهدة ثغرة سياسية في جدران السلطنة لأنها أعطت حقوق (امتيازات) لفرنسا بإقامة علاقات مع الرعايا المسيحيين (الموارنة) في جبل لبنان. وأرفق الاتفاق بمجموعة بنود تعطي للشركات مناطق حرة للتجارة وإعفاءات من الضرائب الجمركية وعدم تفتيش الحقائب بالإضافة إلى اختيار وكلاء (عملاء تجاريين) يتمتعون بحصانة دبلوماسية وتغطية رسمية من الدولة.
بداية لم تكن هناك مشكلة. فالسلطنة آنذاك كانت قوية وقادرة على الدفاع عن حقوقها وأملاكها وإشرافها البعيد على إدارة شئون المجموعات الأهلية. إلا أن المسألة اختلفت مع الزمن وحصول تطورات دراماتيكية على الجبهات العسكرية ونهوض قوى أوروبية منافسة تطالب بحصتها ومعاملتها بالمثل. كذلك بدأ الوضع يتغير حين أخذت الضغوط العسكرية تشتد على السلطنة وبدا الباب العالي في حال من التوتر والقلق بسبب ظهور قوى محلية في مصر وبلاد الشام والجزيرة العربية تتنافس على الزعامة أو تتحرك باتجاه نوع من الاستقلال عن مظلة السلطان. وهذا التحول الذي سار بهدوء على امتداد نحو ثلاثة قرون ظهر بقوة في مطلع القرن التاسع عشر حين برز في مصر مشروع دولة حديثة يقودها الباشا محمد علي.
ظهور مصر من جديد على مسرح التاريخ قلب المعادلة وكشف من الداخل تلك الثغرات التي اتسع حجم دوائرها حين أخذت «المجموعات الأهلية» تتحرك في سياق سياسي مضاد لمصلحة السلطنة. فهذه المجموعات (الدينية) لم تعد مهمشة ومعزولة وقابلة بالأمر الواقع. فهي من خلال علاقاتها المباشرة والمشروعة رسميا أسست شبكة من القنوات المتصلة بالدول والشركات الأوروبية. وراكمت خلال القرون الثلاثة علاقات ومعارف وخبرات وثروات أسهمت في تشكيل وعي مفارق (مضاد) لتلك المفاهيم المتعارف عليها في منظومة «الملل والنحل» التي اعتمدها الباب العالي إطاراً لنسج العلاقات مع رعاياه من شتى الأقوام والديانات والمذاهب.
منظومة «الملل والنحل» هذه تعرضت لامتحان قاسٍ حين أرسل باشا مصر ابنه إبراهيم إلى بلاد الشام. فهذه الحملة العسكرية كشفت عن ضعف السلطنة وعجزها على الدفاع عن مواقعها ومصالحها. كذلك وضعت السلطان محمود الثاني أمام تحدٍ رهيب حين أضطرت قواته إلى التراجع عن بلاد الشام والانكفاء إلى الاناضول وهزيمة جيشه في موقعة قونيه في العام 1834.
هذه الهزيمة هزت هيبة السلطنة وكانت بداية النهاية التاريخية لنفوذها التقليدي في مصر. كذلك شكلت الخطوة الأولى في سياق التراجع المتدرج للسلطنة في بلاد الشام. فالمعاهدة (كوتاهيا) التي تلت الموقعة قضت بتنظيم نوع من الحماية الأجنبية (الأوروبية) للسلطنة من التمدد الروسي مقابل تنازلات تقدمها في المشرق العربي لمصلحة مصر. وهذا التوزيع الإداري لمواقع النفوذ انتج صيغة من الثنائيات صبت في نهاية الأمر لمصلحة الدول الأوروبية. فهنالك أولاً ثنائية عثمانية - أوروبية، وثانياً ثنائية عثمانية - مصرية، وثالثاً ثنائية مصرية - أوروبية، ورابعاً (وهنا الخلل الكبير) ثنائية أوروبية والمجموعات الأهلية غير المسلمة تسير جنباً إلى جنب مع ثنائيات عثمانية أو مصرية مع مجموعات أهلية مسلمة. وأدى اختلاط هذه الثنائيات إلى تشكيل توترات أهلية (حروب طائفية ومذهبية) زعزعت التعايش التقليدي في فترة لاحقة وأسهمت في توسيع دوائر التدخل «الأجنبي» في شئون السلطنة والمسلمين عموماً. وبدأ هذا الأمر يشتد حين اشتد المرض بالسلطان محمود الثاني.
شكل النزاع على المشرق العربي (بلاد الشام) نقطة تحول في تاريخ السلطنة واتصالها التقليدي العميق بالعالم العربي. فالباب العالي كان يستمد قوته الشرعية من العرب ونظام الخلافة الإسلامية وشكلت هذه القوة ضمانة تاريخية لتماسك السلطنة ونهوض دولتها على هوية دينية لعبت دوراً في إثراء الإنسانية بالعلوم والمعارف والمبادئ الأخلاقية. وحين بدأت أوروبا تطرق أبواب المنطقة من الخارج شكل الإسلام الدرع التاريخي لحماية الديار العثمانية من الاختراق. إلا أن المفاجأة التاريخية، أو «مكر العقل» كما يقول هيغل في فلسفته، أن السلطنة تلقت ضربة قوية من داخل الحصن. وهذا ما وضع الباب العالي أمام سؤال يطرح عليه هاجس البحث عن جواب.
تجربة محمود الثاني في مسألة التحديث (سياسة التنظيمات) كانت نموذجية في تناقضاتها، فهي من جهة ارست قواعد ثابتة للنهوض الاقتصادي وتجهيز الجيش وتطوير إدارات الدولة، ومن جهة أخرى أسست نوعاً ما لمرحلة الانهيار التاريخي وبداية نهاية السلطنة. ففي عهده مثلاً خسر الباب العالي الجزائر التي استولت عليها فرنسا في العام 1830، وأيضاً خسر نفوذه التقليدي في بلاد الشام، وبات عليه أن يقبل بالاملاءات الأوروبية مقابل وعود بحمايته من روسيا القيصرية أو من طموحات باشا مصر محمد علي.
هذا الوضع المزري احبط السلطان وانهك صحته فاشتد مرض السل على محمود الثاني ودخل في صراع طويل مع الموت إلى أن رحل عن الدنيا في العام 1839 وخلفه ابنه السلطان عبدالمجيد.
في هذا العام شهدت السلطنة تموجات مد وجزر في توازنها السياسي والجغرافي والتنظيمي. فآنذاك وفي تلك السنة الانتقالية من عهد محمود الثاني إلى عبدالمجيد حصلت تطورات انقلابية أحدثت هزات عنيفة في المنطقة. في الخليج مثلاً واصلت بريطانيا تثبيت مواقعها وتأسيس هيكلية سياسية موالية لها. كذلك اتجهت بريطانيا إلى مد نفوذها العسكري في البحر الأحمر فأقدمت على احتلال عدن في العام نفسه.
هذا التغير الجيوبولتكي (الجغرافي/ السياسي) أثار قلق السلطنة التي زاد اعتمادها على ألمانيا (بروسيا آنذاك) وبدأت تميل إلى الأخذ بمشورتها في وقت كانت تلك الدولة الصاعدة تبحث عن مكان ما تستقر فيه لمنافسة الاحتكار الفرنسي - البريطاني للبحر المتوسط والسوق الآسيوية. واستغلت ألمانيا التوسع البريطاني في الخليج وعدن لتثير مع الباب العالي مسألة معاهدة كوتاهيا وما أسفرت عنه من ظلم لحق بنفوذ السلطنة في بلاد الشام. واستجاب الباب العالي للمشورة الالمانية وسارع الى تشكيل قوة بحرية بقصد طرد قوات محمد علي باشا من المشرق العربي إلا أن الجيش المصري نجح في تسجيل انتصار بحري في معركة نصيبين وتدمير ربع الاسطول العثماني.
عززت تلك المعركة مخاوف الدول الأوروبية من ظهور قوة جديدة وبديلة عن الاستانة في المنطقة. وقرر التحالف الأوروبي التحرك على أكثر من خط لاستعادة نفوذه المهدد، فاتصل بالسلطنة وعرض عليها الدعم مقابل تخفيف اعتمادها على بروسيا التي اقدمت على مساعدة الصرب لطرد العثمانيين من بلغراد. وكانت النتيجة انقلاب التحالفات الأوروبية ضد مصر. فالآن لم تعد اوروبا تخاف من العثمانيين (الاتراك) وإنما من قوة دولة الباشا محمد علي. وبناء على هذا الاتفاق الذي جرى مع السلطان الجديد أخذت بريطانيا تشد الخيوط الأوروبية في جبهة واحدة ضد مصر.
كان السلطان عبدالمجيد حديث العهد في الحكم حين حصلت تلك التحولات الكبيرة. ولم يكن أمامه من خيار آخر سوى الموافقة على المشروع الأوروبي الجديد الذي وقع في لندن بالتوافق مع روسيا والنمسا وألمانيا في العام 1840.
شكلت معاهدة لندن خطوة نوعية في ترسيم الحدود السياسية بين مصر والسلطنة في بلاد الشام كما أنها كشفت عن نهوض تحالفات أوروبية جديدة استبعدت فرنسا من خريطتها. وهكذا دخل التحالف الأوروبي الجديد في معركة مع مصر لمصلحة السلطنة وانتهت المنازلة البحرية وحصار المدن والموانئ الشامية إلى إجبار إبراهيم باشا على سحب قواته من «المشرق العربي» مقابل تقديم ضمانة لاستمرار حكم أسرته في مصر.
عالم جديد... وآخر
هكذا انكفأت دولة الباشا وتقوقعت في دائرتها المصرية في وقت نجحت السلطنة في استعادة مواقعها مؤقتا في بلاد الشام. ولكن الباب العالي اكتشف أن عودته لا تعني بالضرورة عودة نفوذه الذي تهشم وأصيب بأضرار بليغة. فالعودة الآن جاءت بمراقبة أوروبية وبشروط قاسية اجبرت السلطان عبدالمجيد على تلبيتها فأصدر في خريف 1839 مرسوماً عرف بخط «الشريف كلخانة» الذي ينص على استكمال الإصلاحات التي بدأ بتنفيذها والده الراحل.
تحت سقف «الإصلاحات» أخذت السلطنة تتزعزع لأن التحديث الذي اتبعه السلطان جاء بناء على توصيات ونصائح الدول الأوروبية. لم تكن «الإصلاحات» إسلامية بقدر ما كانت تلبي حاجات الواقع وتستجيب لضغوط عالم جديد يتقدم وآخر بدأ يبحث عن موانع تحميه من الانهيار. فالتحديث يعني استخدام التقنية الغربية وكذلك يتطلب المال وهو غير متوافر من دون قروض وتسهيلات تقدمها المصارف الاوروبية. وهكذا وجد السلطان أن قوته لا يمكن لها أن تستمر من دون دعم أجنبي، والدعم لا يستمر من دون تقديم تنازلات تمس السيادة وتعدل الدستور وتصوغه من جديد وفق تصورات لا تتفق بالضرورة مع تقاليد الإسلام وجوهر الشريعة.
إلى ذلك كانت بلاد الشام (المشرق العربي) وبلاد المغرب والجزيرة العربية تغيرت أو على الأقل دخلت في محطات زمنية لا تتناسب مع تلك الفترة السابقة التي كانت السلطنة تفرض حضورها السياسي ونفوذها التقليدي فيها. ففي الشرق ظهرت في الهند دعوة الآغاخان في العام 1840 التي لقيت رعاية من بريطانيا هناك. وفي الجزيرة العربية استعادت الحركة الوهابية نشاطها بعد أن غادرت قوات محمد علي المنطقة فأعلن عن تأسيس الدولة السعودية الثانية في العام 1843 بقيادة الأمير فيصل بن تركي. وفي الجزائر حاصر الفرنسيون الثورة التي قادها الأمير عبدالقادر ونجحوا في اعتقاله ونفيه إلى دمشق في العام 1848. وفي ليبيا اشتد ساعد الحركة السنوسية التي انطلقت في العام 1837وبدأت تبسط نفوذها على الناس داعية إلى اعتماد نهج إصلاحي لتحديث العالم الإسلامي وتطويره.
أما في مصر فكان القدر مع الباشا، إذ توفي مؤسس الدولة الحديثة محمد علي في العام 1849 بعد مرض الشيخوخة (الخرف). والمصادفة أن رحيله جاء بعد وفاة ابنه إبراهيم باشا، الأمر الذي احدث هزة سياسية في الأسرة الحاكمة بسبب الخلاف على توريث الدولة.
إلا أن الحادث الأهم الذي زعزع نفوذ السلطنة كان ظهور بدايات انشقاق طائفي / مذهبي بين الدروز والموارنة في جبل لبنان في العام 1840 أسفر عن مواجهات ومذابح بررت تدخل الدول الكبرى في شئون منطقة المشرق العربي وفرضت على السلطان تراجعات جديدة تمس هيبة الدولة وسيادتها على رعاياها.
لم يكن السلطان عبدالمجيد يملك خيارات أخرى. فهو اما إن يقبل بشروط التدخل أو تنزع منه تلك المساعدات التقنية والمالية التي يحتاجها لاستكمال مشروع التحديث. وتحت مظلة العثمانيين الشكلية أخذ «المشرق العربي» يتفكك وينهار بفعل الاضطرابات الطائفية ونمو نفوذ التدخل الأجنبي وتلاحق صدور مراسيم التنظيمات السلطانية التي أعادت تأسيس الجيش وتنظيمه، وتطوير مجلس التعليم والتربية والخدمات العامة والمالية وصولاً إلى إلغاء الجزية. شكلت هذه التحديثات المفروضة من الأعلى (السلطان) والانقسامات الممتدة في ساحات السلطنة إضافة نوعية شجعت الدول الكبرى على تطوير هجومها الاستعماري على الديار الإسلامية من أقصى الهند إلى أقصى المغرب. وهذه التحولات ستظهر في أشكال مختلفة إلا أن مظهرها العنيف سيتركز في تلك السلسلة من الحلقات الممتدة من القاهرة إلى اسطنبول مروراً بالمنطقة الدائمة التوتر والالتهاب: بلاد الشام
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1505 - الخميس 19 أكتوبر 2006م الموافق 26 رمضان 1427هـ