العدد 1504 - الأربعاء 18 أكتوبر 2006م الموافق 25 رمضان 1427هـ

ذكريات كويتية... في سيارة «الفوهرر» الدافئة

حسين راشد الصباغ comments [at] alwasatnews.com

عملت ما يقارب أربع سنوات في الكويت خلال الستينات من القرن الماضي، في الحقل التعليمي الرسمي، وساعدني بعض الأقارب البحرينيين الذين يعملون في الميدان التجاري في العمل بالكويت. وكانت أول سيارة في حياتي اقتنيتها سيارة «فولكس فاجن» من شركة بهبهاني، الوكيل المعتمد في الكويت. ولم يكن ثمنها في العام 1965 يزيد عن 300 دينار بحريني. هذه الـ «بيتلس» أو الخنفساء، كانت وسيلتي الوحيدة في التنقل في الكويت، في فصل الشتاء القارص، وكنت أتمتع بتدفئة مركزية متنقلة رائعة توفرها هذه السيارة المتواضعة التي أنتجتها المصانع الألمانية بناء على طلب من الزعيم الألماني الفوهرر أدولف هتلر، لتلبي حاجة المواطنين الألمان، ولاسيما من طبقة البروليتاريا الكادحة، ولتكون ملائمة لطقس ألمانيا شديد البرودة في فصل الشتاء الطويل بصقيعه وثلوجه. وقد لاقت هذه السيارة رواجا شديدا في الكويت اذ كان لي أربعة من الأصدقاء العرب يقتنون هذه السيارة لبساطتها وجمال محياها الغريب والملفت للنظر ولاعتدال سعرها.

أذكر عندما ذهبت إلى معرض هذه السيارة لاختيار اللون المطلوب كان هناك رجل بدوي بسيط مع أقران له أشد بساطة وسذاجة منه، كانوا يعاينون السيارة مثلي، وعندما فتح ما يفترض انه مكان «ماكنة» السيارة في مقدمتها صرخ أحدهم بصوت شديد: إن ماكنة السيارة قد سرقت أو سقطت! فلم يدر بخلد هؤلاء البسطاء أن هذه «الماكنة» وضعت خلف السيارة بدل مقدمتها، وهذه ليست نكتة كما يرددها بعض الأصدقاء في الكويت إنما واقعة حدثت أمام ناظري وبمعية بعض الأصدقاء الكويتيين. هذه السيارة ذهبت بها مرة واحدة إلى البصرة، إذ درج أهل الكويت من كل الفئات والطبقات على التمتع بإجازة الخميس وهو نصف دوام مع يوم الجمعة في ربوع البصرة صيفا وشتاء، وهناك أواصر القربى بين الكثير من الكويتيين والعراقيين. وذهبت بعد ذلك مع أصدقاء كويتيين إلى البصرة وبغداد مرات عدة في سياراتهم الفارهة، وتركت سيارتي الجربوعية غير نادم، والتي تحط من مقام الإنسان في ديارنا الخليجية الصاعدة إلى مراقي التقدم والأبهة و»الإنشكاح» كما يقر أهل المصر الكرام والذين عشت بين ظهرانيهم سنين طويلة انقضت وتركت في النفس روح الفكاهة والفرفشة.

في الكويت تقبلت بصدر رحب كل ما حل بي على يد هذه السيارة البسيطة من مشكلات ومطبات، بعضها ظريف وطريف وبعضها منفر يجلب الهم والنكد! في شتاء العام 1965 وأنا خارج من وزارة الإرشاد والأنباء الكويتية بعد مقابلتي رئيس تحرير مجلة «الكويت» عبد الله الطائي بعد أن أعطيته أول مقال لي، عبارة عن دراسة أدبية ونقدية لديوان «بقايا الغدران» للشاعر أحمد محمد الخليفة. كنت أسوق سيارتي على الطرق بكل ثقة واطمئنان وهدوء، ويبدو أن هذه السياقة الهادئة والمنضبطة لم تعجب سائق سيارة الكاديلاك الفخمة التي تسير بسرعة مخيفة، فما كان منه إلا أن صدمني من الخلف وأحال سيارتي إلى الرصيف لتتوقف عن الدوران والحركة... والحمد لله لم يصبني أي مكروه أو أذى، ما عدا خدوش بسيطة بالأيدي والأرجل نتيجة الارتطام الشديد! إلا أن المصيبة حلت بماكنة السيارة المثبتة بالخلف، إذ تهشم جزء كبير منها وسكت حسها وتوقف دورانها!

كان هذا السائق يرتدي الملابس العربية (عقال وغترة ناصعة البياض) ولو كان يحمل سيفا بيده لحسبته أبو زيد الهلالي! وعندما نزلت من سيارتي لأعاين ما حدث وألومه على فعلته، وقبل أن أنطق بكلمة وجدته ينهرني بشدة مخاطبا إياي: «يا هندي»! فقد حسبني من الأرومة الهندية التي ينعتها العرب بالدونية، وهي اليوم أمة عظيمة تأتي بعد الصين في إنجازاتها الاقتصادية، ومن أسرة المهاتما غاندي طيب الذكر. وما شفع لي بأن يمد يده لي أنني كنت في منتهى الأناقة، أرتدي بدلة داكنة وربطة عنق أنيقة، فما كان مني بعد هذا التطاول على أهل الهند والسند إلا أن اتصلت بقريبي في مكتبه بصيدلية الأهالي أشرح له ما حل بي وأطلب منه النجدة العاجلة. وكان من حسن حظي وعظيم بختي أن الحادث قريب جدا من إدارة المرور، فوصل «جيب المرور» بعد دقائق، فقدمت نفسي بسرعة لشرطي المرور مفصحا عن اسمي وهويتي خشية أن يظنني هندياً، لأن الذي يرتدي البدلة وخصوصاً من أمثالنا ذوي السحنة السمراء في مجتمعات الكويت الراقية كما يعتقدون هو أجنبي قليل البخت وعديم القيمة والمقام!

أما الذي صدمني وأساء إلي هذه الإساءة البالغة معنويا وماديا اتضح أنه ليس من أهل الكويت وإنما من بلد عربي شقيق جدا جاء ليعتذر لي بشدة ويشيد بأهل البحرين وبأخلاقهم وشمائلهم الدمثة وطيبتهم المتناهية، وأن له ابن عم يعمل في البحرين بل ويحمل جنسيتها. وذهبت بعد ذلك إلى إدارة المرور كما طلب قريبي مني لأشكر مدير إدارة المرور صقر الجاسر الذي كان له الفضل في نجدتي وخلاصي من هذا العربي «المتكوت» والمتعجرف مع سبق الإصرار والترصد كما يقول قانون الجزاء! وأنا على يقين أنه لو كانت فعلته تلك في سنوات الخمسينات لبطح على بطنه شر بطحة في الساحة المقابلة لمديرية الأمن العام ونال عقابه بالجلد الشديد

إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"

العدد 1504 - الأربعاء 18 أكتوبر 2006م الموافق 25 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً