كل كتابة تستعرض إمكاناتها هي محض هزل جائل. ما نحتاجه اليوم أكثر من ذلك. نحتاج إلى كتابة تعيد الرشْد إلى المكان كي تتمكن من إعادته إلى إنسان ذلك المكان.
***
تفاصيل ما يدور من حولنا يشي بالعميق من الهزل وإنْ غمره الدم والأشلاء والركام. إذ ليس بالضرورة أن يكون الهزل التوحد بحال من اللامبالاة والغفلة واصطناع النسيان. ثمة هزل مركّب يريد أن يقلب معادلات التوقع على أكثر من مستوى، بدءاً بالحس، وليس انتهاءً بما بعده.
***
وإلا ما التوصيف الدقيق الذي يمكن أن يخرج به المتتبع لواقع ماثل من حولنا؟ آلية ما يحدث، يضاف إليها تبييت النوايا، والعمل على تحقيق ما تتطلع إليه، تثبت أن ثمة مناعة من نوع آخر للهزل.
***
البلاطات المزدحمة بالهزل لم تعد بالضرورة قائمة اليوم. بالأمس كانت جزءا من ملء فراغ وتهتك ومزاج السلطة. باتت اليوم جزءا من نظامية وسلوك وثوابت السلطة على مستوى الأداء والممارسة والتعاطي مع بدعة (الرعية).
***
ما يحدث اليوم من سلْق المشروعات والخيارات والأفق والممارسة وإتاحة الهامش والمسيرات والاحتجاج، كل ذلك جزء من منظومة الهزل، خصوصاً إذا ما تم تفريغ كل تلك المسمّيات والممارسات من أهدافها ومحصلاتها ونتائجها.
***
هل ذكرنا منظومة الهزل؟ نعم. فمثلما للتجهم، والقمع، والمصادرة منظوماتها، للهزل منظومته، وهي بالمناسبة منظومة ضالعة في التأصيل والتعميق والتكريس. لها جيوش من الخبراء والمستشارين والأجهزة ومؤشرات الرأي العام المفبركة والمصطنعة، ووسائل الإعلام المساندة والمغذية لها.
***
دخل رجل من أهل الكوفة على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي، أُخذت مني بصفين. فارتفع أمرهما إلى معاوية بن أبي سفيان، وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بيّنة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير له.
فقال الكوفي: أصلحك الله، انه جمل وليس بناقة.
فقال معاوية: هذا حكم قد مضى.
ودسّ الى الكوفي بعد تفرّقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع له ضعفه، وبرّه وأحسن إليه، وقال له: أبلغْ علياً أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة والجمل!.
هَزِلٌ في الدنيا يطلب الآخرة!
حدّث المنقري، عن عمرو بن الحبّاب الباهلي، عن إسماعيل بن خالد، قال: سمعت الشعبي يقول: سمعت الحجاج يتكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، سمعته يقول: أما بعد، فإن الله عز وجل كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرنّكم شاهد الدنيا من غائب الآخرة، فطول الأمل يقصّر الأجل.
سرور لولا أنه غرور
قال سليمان بن عبدالملك للخليفة عمر بن عبدالعزيز يوما، وقد أعجبه سلطانه: كيف ترى ما نحن فيه؟ قال: سرور لولا أنه غرور، وحياة لولا أنه موت، ومُلك لولا انه هُلْك، وحُسْن لولا أنه حزن، ونعيم لولا أنه عذاب أليم.
يزيد وحبّابة
اعتلّتْ حبّابة (1) فأقام يزيد بن عبدالملك أياماً لا يظهر للناس، ثم ماتت، فأقام أياماً لا يدفنها جزعاً عليها حتى جيفت (2) فقيل: إن الناس يتحدثون بجزعك، وإن الخلافة تجلّ عن ذلك، فدفنها وأقام على قبرها فقال: (من البحر الطويل)
فإنْ تسْلُ عنك النفس أو تدع الهوى
فباليأس تسلو النفس لا بالتجلّدِ
ثم أقام بعدها أياماً قلائل ومات.
(1) مغنية ومن خواص جواريه.
(2) أي نتنت وأصبحت جيفة كريهة الرائحة
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1504 - الأربعاء 18 أكتوبر 2006م الموافق 25 رمضان 1427هـ