لاشك أن الأدب المعاصر تتلاطمه قضايا تبدو في ظاهرها أعقد من بيت العنكبوت، وحين أسمي الأدب فلا أعني بذلك الشعر منفصلا عن بقية إخوته من الفنون الأدبية الأخرى، إلا أنني سأكتفي بالشعر نموذجا ومثالا لما أود طرحه وليس بالضرورة اختياري الشعر موضوعا أنني أحابيه على حساب النثر، وإنما اختياري الشعر جاء ليختصر كل المسافات المتباعدة على عكس النثر.
ولأن شعرنا الحديث في غالبه لا يخلو من الالتزام وتبنيه الدائم لوجع الفرد واحتضانه لمشاعره المسحوقة، فقد صار لزاما على الاديب عموما والشاعر خصوصا أن يختار نمطا من الكتابة يكون بحجم الالتماس الكهربي الذي يجهز عليه، على أن الدرب الذي خطه الأديب لنفسه كالسير حاف على الخازوق، مثله كهاوي القمم الوعرة ما إن يصل إلى مبتغاه حتى ترى أبواب المجد قد تفتحت له وإما أن يسقط فتذهب عافيته ومجده الذي ساوره إلى الفناء لا محالة، ولا يعنيني كثيرا أيهما الرابح والخاسر فلربما وهذا أقل الاحتمالات حظوة عندي أن الحظ عانق صديقنا الاول وأعطى ظهره للآخر، الأمر نفسه يحوم حول الشاعر والأديب وسنبين ذلك لاحقا.
ومثلما تخضع نسمات الهواء والشهيق والزفير في بلد «المخابر والبوليس» تحت طائلة المساءلة القانونية، تحتم على الدارس هو الآخر وكردة فعل طبيعية أن يحاكم من حاكم (الشاعر).
محاكمة النص
لما كان للغة ذاك الدور النبيل في تعرية ما يراه قبيحا من أمور تمس المجتمع والفرد على حد سواء كان لابد له من منهجية يتعاطى فيها اللغة و الأسلوب بما يتناسب واحتقان امته.
على أن نضع في الاعتبار ونعترف مسبقا ان اللغة والنص الشعري وجهان لعملة واحدة، بمعنى ان الحريق لا يصبح حريقا لولا التحرش بالمواد المشتعلة كزيت الكيروسين مثلا، والعكس صحيح في النص الشعري الذي سيمارس الغواية نفسها بانفجار المكبوت , فالعلاقة في هذه الحال طردية تماما كلعبة القط والفأر.
يبقى السؤال: هل أن هناك ضابطا بين الالتزام بمعناه الثوري والابتذال؟
وكي أجيبك عن هذ السؤال علينا تعريف الابتذال أولا: فالابتذال لغة من البذل، فتقول بذل الرجل، أي ترك التصون والتحرر (الكشاف: صالح شلهوب) ولو أسقطنا التعريف ذاته على النص الشعري لوجدناه ذاك الكلام المنحرف الشطط ,معرضا قارئه لخدش وندب في حيائه... بيد أننا لا يمكننا الاستسلام ألبتة والنكوص خلف مسمى الفرضيات التي ما كان ليتفوه بها الشاعر لولا هذا الارتجاج والانقباض في عضلاته ومساماته، ولكن لايعني ذلك أيضا أن نفتح باب الجنة لمن هب ودب على مصراعيه باسم «التعايش الفني» فثمة فارق بين من يتخذ العمامة لأجل العمامة ومن يتخذها لأجل الله، فالأول نذر نفسه للناس، وأما الآخر فالله وطمعا في جنانه، وذلك الأمر ينطبق على الأديب، فالأدب المنهزم ينم عن ضعف وانفصام شخصية صاحبه واتسامه بانحراف أخلاقي وتعاطيه السباب والقذف في غير محله مدعاة للترحم والشفقة على حاله، فيبدو بنباحه أشبه بنباح الكلب الذي لاجدوى منه.
نصوص سرور و«النباح الممقوت»
فمن يتتبع آثار الشاعر المصري نجيب سرور، يجد معظمها ما يدعو إلى التقيؤ وتليف الأعضاء، تجد سرور يلح عليك بنهم وتكلف شديدين الرضوخ لمصطلحاته «التواليتية» يحضك من دون داع للنزول في مستنقع نصه الآثم، حتى أنه قد يستحي كاتب هذه الأسطر أن يبوح بما عنونه سرور لإحدى قصائده في ديوان «الأميات» المنشورفي العام 1969 التي جاءت كردة فعل على نكسة 67، تنحو قصيدته منحنى آخر يصح أن نطلق عليه بالأدب الأيروتكي أو الأدب الجنسي... وإن كان سرور في ظاهريته الشعرية تلك منشغلا بالتزامه السياسي، الا ان التزامه خذله هذه المرة، فيجيء نص قصيدته عابثا محطما للقيم الأخلاقية جاهرا باستفاضة غثيثة في تسمية الأعضاء التناسلية من دون ورع.
لقد صب سرور جام غضبه على القارئ بدلا من أن يقذفها على من هم أهل لذلك، كان حريا بسرور ألا يحمل النص عبء مالا يحتمل بالقفز على الثوابت وولوج المناطق المحظورة عن سابق إصرار وترصد، ولو كان الأمر غير ذلك لكانت مهمتي أسهل في طرح استشهادات تدلل على الانزلاق الفاحش الذي وقع فيه صاحبنا نجيب سرور.
مظفر النواب «السوقي الجميل»
وإن كان مظفر النواب واحدا من ضمن قائمة الشعراء المرجومين والمتربعين على القائمة السوداء في بلد « المخابر والبوليس» إلا أن الأخير قد فرض نفسه، كانت تعريته للخراب و التغريب والتنكيل تأتي بتلقائية شديدة من دون أن يحس قارئه أن ما يجاهر به ضرب من السوقية بقدر ما هو اصلاح وتشويه لما يمكن أن يشوه.
لقد مارس النواب دوره كشاعر ملتزم، وظف نصه وفق معايير أخلاقية لم تكن لتتجاوز حدود الأدب والمنطق، ذلك أن اللغة الشعرية عملية سلوكية محضة، ما لم تروض أو تلجم انقلبت على صاحبه انقلاب الموج على البحار... أضف إلى ذلك كله أن النص الشعري مرآة لشخصية صاحبة التكوينية، فكيف يؤتمن من يحسب نفسه متصديا لقضايا أمته، وهو خاو لا مبدأ والخطايا تركبه من الساس إلى أخمص القدمين؟
ذلك هو «السوقي الجميل» نبس بالكلمة التي تفتك معتقدا أن الفتك لا يجر الا الفتك، كان لابد أن يطعن بقدر النزف ( الاعتداء على قدر الاعتداء)، كان حقا عليه أن يسمي الأشياء بمسمياتها، لكن دون الوصول إلى حد «ما بعد الفتك» - إن جاز لنا التعبير- ولا أدل على ذلك الرواج الذي لقيته آثاره و نصوصه من دراسة مستفيضة
من النقاد وذلك الحشد الجماهيري الذي ضمنه لنفسه بالتفاف رجل الشارع العادي حوله.
ومثلما وجدت عسيرا علي الخوض في استشهادات سرور، إلا أن الاستشهاد في حضرة النواب أمر هين للغاية وسقوط جميل... وأكتفي بمثال واحد للتدليل على صدقية سوقيته الأريحية ورائعته الشهيرة «وتريات ليلية»
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب
لصرخات بكارتها ...
فالبكارة في هذا الاستشهاد جلية وواضحة، بكارة الأرض الذي افتضها العدو، كرامة الوطن التي انتهكت تخاذلا وجبنا ممن يوصمون أنفسهم مجازا بـ «العرب» اذا هذا هو السوقي الذي يحني له القارئ هامته إزاءه، لا أن يدير له ظهره في حضرة شاعر ثمل تعويضا للخلل الطارئ في أنسجته الهرمونية
إقرأ أيضا لـ "جاسم اليوسف"العدد 1504 - الأربعاء 18 أكتوبر 2006م الموافق 25 رمضان 1427هـ