المناصحة بكل أنواعها جزء من إسلامنا وهي كذلك تتماشى مع العقل والمنطق وقد تحقق المناصحة أشياء كثيرة يصعب تحقيقها بوسائل أخرى... والمناصحة في حقيقتها أمر بالمعروف - كل أنواع المعروف - ونهي عن المنكر بكل أنواعه أيضاً ولذلك فهي جزء من ثقافة معظم أبناء مجتمعنا ولكنها تمارس - غالبا - بصورة ليس فيها ابتكار أو تجديد حسب علمي.
مساعد وزير الداخلية السعودي الأمير محمد بن نايف وجد أن الحل الأمني لا يكفي وحده للتعامل مع الموقوفين في قضايا إرهابية ووجد أن المناصحة يجب أن تتجه إلى أولئك الشباب الذين تورطوا في أعمال إرهابية أو ساعدوا عليها أو كانوا يحملون أفكاراً شاذة لا تتفق مع سماحة الإسلام وتعاليمه كان ذلك قبل نحو ثلاث سنوات تقريباً.
والفكرة هنا تعالج وضعاً نراه في أماكن كثيرة وفي أزمان كثيرة - أيضاً - هذا الوضع الذي يتلخص في أن هناك أشخاصاً يمارسون أعمالاً خاطئة ولكنهم يعتقدون - وهم يمارسونها - أنهم يقومون بأعمال ممتازة قد توصلهم إلى الجنة في الآخرة وإلى المكانة السامية في الدنيا، ولولا هذا الاعتقاد الجازم - في نظرهم - لما قاموا بتلك الأعمال.
القرآن الكريم تحدث عن هذا النوع من الناس (في سورة الكهف: 103 - 105) فقال متحدثاً عنهم: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا».
إذاً هناك أناس يقومون بأعمال سيئة ولكنهم لا يدركون هذا السوء ويحسبون أنهم على حق. وهذا السوء وصل في بلادنا إلى حد كبير مثل القتل والتدمير والتكفير ومن هنا برزت تلك الفكرة الرائدة التي تبناها الأمير محمد بن نايف وباركها وزير الداخلية ونائبه.
الجميل في هذه الفكرة وريادتها أنها جاءت في كونها ابتعدت عن الجانب الأمني لان هذا الجانب - تحديداً - يعنى بجزء من المشكلة وهي متابعة المتهمين والقبض عليهم ومحاولة معرفة تفاصيل ما قاموا به ولماذا قاموا به. ولكن هناك جانب لا يقل عن الجانب الأمني أهمية بل قد يفوقه أحياناً وهو الجانب المعني بإعادة أولئك المنحرفين فكرياً إلى جادة الصواب وجعلهم يعودون إلى مجتمعهم أفراداً صالحين يمارسون حياتهم بصورة طبيعية بين أسرهم وأبنائهم فهذا خير من بقائهم في السجون يحملون أفكاراً مشوهة تسيء لهم ولمجتمعهم، ومن أجل هذا الهدف النبيل ولدت فكرة المناصحة.
ولأن هذه الفكرة مميزة، كان لابد أن يقوم بها رجال أكفاء يحققون هدفها بصورة جيدة... ومن هنا كان الأخ سعود المصيبيح على رأس هذه اللجنة وهو رجل يمتلك خبرة طيبة فهو متخصص في علم النفس التربوي واعلامي ناجح وأحسب أنه إداري ناجح أيضاً ولهذا - كله - رأينا أن هذه اللجنة تحوي لجاناً ثلاث: أحداها لجنة علمية والثانية لجنة أمنية والأخرى لجنة نفسية واجتماعية. وكما هو واضح من أسماء وتخصصات هذه اللجان فإنما تحاول بكل أطيافها أن تكون متكاملة بعلاج المشكلات الفكرية والنفسية التي قد تصادفها من أولئك الذين تناصحهم وهم - كما نعرف - ذوو ميول مختلفة واتجاهات متنوعة وكل يحتاج إلى نوع من العلاج أو قد يحتاجه كله.
الواضح أن هذه اللجنة حققت تقدماً واضحاً فقد أعلنت أنها التقت بأعداد كبيرة من الموقوفين، وهذه اللقاءات كانت تتم بصورة عادية وبسيطة وبعيدة عن الضغوط النفسية، كل هذا لكي يتيح للموقوف الذي يرغب في الحديث مع أحد أعضاء اللجنة أن يأخذ وقته الكافي للحديث ويتم التحاور معه بصورة تتسم بالشفافية يقول له ما يريد ويستمع منه إلى تفسير لكل الاشكالات التي جعلته يقوم بأعمال سيئة. ولأن عدداً كبيراً من أولئك الموقوفين شباب ومن متوسطي التعليم فإن الشبه التي كانوا يستمعون إليها هي التي قادتهم إلى تلك الأعمال أو الأفكار التي قاموا بها ولهذا كان لابد من وجود متخصصين شرعيين يناقشون الشبه الشرعية، ولأن البعض الآخر قد يقع تحت ضغوط نفسية أو اجتماعية فإن أعضاء اللجنة من ذوي التخصصات النفسية يقومون بالتعامل مع أصحاب تلك الحالات.
لقد سرر كثيراً وأنا أقرأ المقابلة التي أجرتها «عكاظ» يوم 15 رمضان 1427هـ مع أحد أعضاء اللجنة تركي العطيان وهو طبيب نفسي إذ أكد أن جميع أصناف الموقوفين كانوا متجاوبين مع الحوار وإن اختلفت درجات ذلك التجاوب وأن النتائج كانت ممتازة، ولهذا فقد تم إطلاق نحو سبعمئة موقوف أوصت اللجنة بإطلاقهم بعد أن اتضح لها أن بقاءهم لم يعد له ما يبرره.
الشيء المميز في فكرة المناصحة ونهج اللجنة أنها لا تترك الموقوف بعد اطلاق سراحه نهباً للظروف والحوادث التي قد لا تعرف نتائجها... لقد كان من أهداف اللجنة إعادة الموقوفين إلى أعمالهم - إن كانت لهم أعمال قبل إيقافهم - أو البحث لهم عن أعمال تناسبهم تقيهم العوز والحاجة لكي لا يضطروا إلى العودة لما كانوا عليه قبل ذلك.
ولعل اللجنة تعمل كذلك على إعادة الطلاب - إن كان بينهم طلاب - إلى مدارسهم وجامعاتهم وهذه المسألة تحتاج إلى تنسيق مع الجامعات وبشكل جاد وسريع. ولعلي هنا أشير كذلك إلى عمل بديع تقوم به اللجنة كذلك داخل السجون وهي قيامها بعمل دورات علمية متخصصة وفي فصول دراسية هدفها معالجة الشيهات الشرعية التي يعانون منها، والحضور إلى هذه الفصول ليس إلزامياً لكي يشعر الحاضرون أنهم جاؤوا بمحض إرادتهم وأن من حقهم أن يقولوا ما يشاؤون وأن يطرحوا مع مدرسيهم أي موضوع يريدونه، هذا الوضع أتاح لهم سماع الشيء الكثير مما يحتاجونه وهو الذي شجعهم على تغيير أفكارهم ومن ثم العودة إلى أسرهم.
لقد اطلعت على أسماء بعض المشاركين في هذه اللجان فوجدتها أسماء جيدة قادرة على القيام بدورها الإيجابي بصورة حسنة ولكني مع هذا كنت أتمنى أن يكون من بينهم أسماء أخرى تكون أكثر قرباً نفسياً من الموقوفين لأنهم سيكونون أكثر استجابة لها وتفاعلاً مع أطروحاتها وهذا يسارع في تحقيق أهداف لجنة المصالحة.
هناك جهتان مهمتان لابد من إشراكهما في هذا العمل - ولكن بصورة إيجابية وفاعلة - هما وزارة التعليم العالي ومثلها وزارة التربية وكذلك وزارة الشئون الإسلامية، والهدف ليس اقناع الموقوفين ولكن العمل الجاد على أن لا يكون هناك موقوفون جدد يدخلون في التيار نفسه من جديد ما يشكل عبئاً هائلاً ليس على اللجنة وحدها بل على المجتمع بأسره وهكذا سنجد أنفسنا في دوامة لا تنتهي.
تجربة وزارة الداخلية السعودية تجربة تستحق أن تكون قدوة لكثير من وزارات الداخلية في الدول العربية في كيفية التعامل مع أصحاب الأفكار المتطرفة، فبدلاً من إبقائهم في السجون للأبد والاضرار بأسرهم ودفعهم الى التطرف والإرهاب كان الأفضل محاورتهم وإقناعهم بالاعتدال ومن ثم إطلاق سراحهم ومساعدتهم على العيش بكرامة ونفع مجتمعاتهم. ليتهم يفعلون ذلك‡
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1503 - الثلثاء 17 أكتوبر 2006م الموافق 24 رمضان 1427هـ