العدد 1503 - الثلثاء 17 أكتوبر 2006م الموافق 24 رمضان 1427هـ

حين يتحول صراع الأذكياء إلى جنون عظمة

«مودغلياني» الفنان الذي هزم بيكاسو

نبيل عبدالكريم comments [at] alwasatnews.com

.

في سينما السيف يعرض فيلم «مودغلياني» وهو من القطع الفنية النادرة التي تتحدث عن فترة شهدت فيها باريس ذلك الصراع بين الأذكياء على فرض حضورهم في حقل الابداع في رسم لوحات خالدة.

مودغلياني هو رسام ايطالي من أسرة يهودية. عاش في مدينته تلك اللحظات المفارقة في تاريخ أوروبا وهي لحظات لاتزال تتوالد حتى أيامنا بأشكال وألوان مختلفة، ولكنها في الجوهر تلتقي على موقف سلبي من الغريب أو الأجنبي أو المختلف في دينه وعاداته وتقاليده.

الفيلم لا يتحدث عن العنصرية والتمييز والعداء للسامية أو الآخر وإنما يروي قصة فنان عبقري عاش لحظات تنافس مع أشهر الرسامين في العصر الحديث.

مودغلياني هذا دخل في صراع مع بابلو بيكاسو. وبيكاسو أيضاً نزح إلى باريس هرباً من صعود الفاشية في إسبانيا. وحاله لا تختلف كثيراً عن مودغلياني في الموقف من تلك الجماعات الهائجة التي اخذت تزحف على المدن وتسيطر على الأحياء.

باريس إذاً كانت المكان الذي التقى فيه هؤلاء العباقرة الذين بحثوا عن مدينة جذابة تحتضن الأذكياء من دول الجوار (ألمانيا، ايطاليا، اسبانيا) وتوفر لهم سبل التنافس. هذا اللقاء الكبير في مدينة كبيرة كان أضيق من أن يتحمل هذا الكم من الاذكياء في فترة واحدة. لذلك نشب بين هذه المجموعة ذاك الصراع الخفي الذي يجمع بين العبقرية وحب التفوق والنزعة نحو السيطرة والخوف من المنافسة والطموح إلى الصدارة من دون منازع.

هذا هو جوهر موضوع الشريط السينمائي الذي يحمل اسم مودغلياني (الفنان المبدع) الذي عاش فترة شبابه في باريس في مرحلة انتقالية بين الحرب العالمية الأولى التي انتهت في 1918 وبداية الحرب العالمية الثانية التي بدأت في العام 1939على وقع احذية الفاشية. في هذه الفترة شهدت باريس اخصب لحظة فنية حين ظهر فيها دفعة واحدة اعظم الفنانيين في حقل الرسم. هؤلاء العباقرة دخلوا مع بعضهم معارك جانبية لأسباب تتصل بنظرة الفنان إلى فنه.

بيكاسو تعامل مع الفن على مستويين: الأول، هو فن ولابد من صرف كل حياته من أجله. والثاني، هو سلعة للبيع يستفيد منها للعيش في حياة مستقرة تسعفه على تطوير نفسه من دون قلق أو خوف.

مودغلياني تعامل مع رسوماته بخشوع واحترام. فهو كان يجل فنه ويحاول قدر الإمكان أن يرفعه الى سوية عليا تتجاوز السلعة. فالفن برأيه له قيمته الخاصة التي لا تثمن ولا تباع ولا تشترى... إنها فوق المال.

شكلت هذه النقطة مصدر توتر بين الفنانين. فالأول نال الشهرة وكسب المال وتمتع بفنه وبات في موقع يسمح له بالتلاعب وفعل ما يريد. والثاني اكتسب الشهرة ولم يكسب المال فكان يعيش حياة صعبة ومقهورة ويعاني من الفقر والجوع مع ثلة من أصحابه الفنانيين.

وتحت السقف تدور معارك فنية بين العباقرة. وكل فريق يتمسك برأيه ونهجه في الحياة ويرى أن سلوكه هو الصحيح. بياسكو الذي راكم الشهرة والمال كان يحترم مودغلياني ويخشاه ويرى فيه المنافس الحقيقي له. ومودغلياني كان يحتقر بياسكو ولكنه في الآن يعترف بقدراته الفنية وموهبته الخارقة.

الصراع إذاً بين مبدعين. وهذا النوع من الصراع هو الاشرس لأنه يحصل بين ذكيين مشهود لهما بالتفوق ويتنافسان على حقل واحد من زاويتين مختلفتين.

بيكاسو يظهر في الفيلم في شخصية انتهازية ومؤذية ولا تتردد في استخدام أية وسيلة لقمع الخصوم والحد من طموحات المنافسين. وأيضاً يظهر في وجه آخر يتمثل في الشخص الخبير الذي ادرك لعبة الحياة باكراً وتعامل معها بسهولة وموضوعية ونجح في اخضاع كل العقبات وضبطها إلى مصلحته.

مودغلياني يظهر في الشريط السينمائي في إطار شخصية مضطربة تعاني من الاضهاد والتمزق بين سمو الفن في داخله وصعوبة التعامل مع حياة تضغط يوميا عليه.

حاول بياسكو الذي يهاب منافسة مودغلياني أن يكسب وده من خلال تحاشي اللقاء به أو التهرب منه. إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل وكانت دائما تلك الصداقة/ العداوة تتحول إلى صدامات بين شخصيتين تعيشان الحلم نفسه ولكن كل واحدة على طريقتها.

في الفيلم مشاهد مثيرة ومفارقات غريبة. مثلاً يحاول بيكاسو تعريف مودغلياني على الرسام العظيم رونوار لسبب بسيط وهو أن رونوار العجوز كان الاعظم في عصره ومحط اعجاب كل الفنانيين ولكنه في طريقة حياته وتعامله مع الفن والرسومات أقرب إلى نهج بيكاسو... أو بالاحرى بيكاسو الشاب آنذاك كان يتخذ من رونوار نموذجه في تبسيط الدنيا وعدم تعقيدها وصولاً إلى الجنون. اللقاء لم يترك اثره الكبير على مودغلياني الذي انحرف كثيراً في حياة الشرب والملذات واللهو وتدخين الافيون والعيش بطريقة غير آبهة لا بالقانون ولا بعواقب الدنيا ومتطلباتها. بيكاسو لا يقل عنه ولكنه يتميز بالقدرة على السيطرة على نفسه وضبط انفعالاته ومتطلباته عند حدود يقررها.

بين بيكاسو ومودغلياني تدور حوادث الفيلم المباشرة. ولكن القصة التي ترويها عشيقة/ زوجة مودغلياني تشكل الخيط الخفي الرابط من المشهد الأول إلى الأخير. فهذه المرأة كانت الوحيدة القادرة على فهم شخصية هذا الفنان الفريدة في عبقريتها والمزاجية في سلوكها. وهذه المرأة اعطته كل شيء وتركت أهلها وطفلها من اجله. فهي احبته الى درجة الأنانية ولم تكن تتصور أنها يمكن أن تعيش من دونه لحظة واحدة.

هذه المرأة كانت السر الخفي في شخصية هذا الفنان العبقري. فهو رسمها ورسمها واعاد رسمها وحاول بيكاسو منافسته عليها. إلا أنها لم تكن إلا له لأنها كانت تدرك ذاك الإنسان الجميل في داخله.

بقي الحال على حاله من الجنون الى أن وقع ذاك التحدي بين الفنانين والقبول بالمنافسة على جائزة باريس الأولى للرسم. وشارك في الحفل ابرز الفنانين في ذاك العصر وبينهم بيكاسو الذي رسم مودغلياني في لوحة حطمت شكل وجهه وكسرته إلى مربعات هندسية. وشارك مودغلياني في لوحة كانت الأخيرة في حياته وهي ذاك الرسم لحبيبته/ زوجته الحامل تقعد على الكرسي واضعة يدها حول بطنها وعنقها يميل الى اليسار. هذه اللوحة الخالدة التي تحمل اسم «جان» فازت بالجائزة الكبرى وحل بيكاسو في المرتبة الثانية.

أخيراً انتصر مودغلياني ولكنه في يوم فوزه (نال 5 آلاف فرنك) الذي دخل التاريخ في العام 1929 يتعرض هذا الرسام الشاب العبقري إلى حادث اعتداء يسفر عن قتله في زقاق من أزقة باريس. وهذه المأساة تعتبر قمة الفيلم الدرامية. ربما تكون الحوادث متباعدة ولكن المخرج لعب لعبة ذكية حين ربط سلسلة حلقات في يوم واحد.

في هذا اليوم يسجل مودغلياني انتصاره في اعظم لوحة تنتمي إلى مدرسة انطباعية اخذت تتلاشى في عصره. وايضاً يفشل بيكاسو في تبوء المرتبة الأولى ولكن لوحته (المحطمة الاشكال) تؤسس لاحقاً ملامح عصر جديد من الفن سيقوده هذا الفنان العبقري الاسباني إلى اعلى المستويات ولفترة طويلة ستمتد نحو نصف قرن.

فيلم مودغلياني يتحدث عن فترة محددة ساد فيها الجنون الفني على مختلف المستويات، ولكنه ايضاً يتحدث عن صراع العباقرة وقدراتهم في التطوير والتنافس والتحطيم والجمع بين المألوف والمخالف لكل الاعراف والتقاليد. إلا أن الشريط السينمائي يقدم فكرة رائعة عن التطور المجنون لهذا الفن وانتقاله من عصر رونوار الانطباعي إلى عصر بيكاسو التكعيبي... وبين هذا وذاك هناك شخصية شابة غابت عن مسرح التاريخ باكراً ولكنها تركت لنا محطة للتوقف بين عصرين. مودغلياني ولوحته الخالدة: جان

العدد 1503 - الثلثاء 17 أكتوبر 2006م الموافق 24 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً