كيف يمكن للمرء أن يفسّر بعقلانية ظهور الأصولية الإسلامية اليوم؟ لماذا في عصر المنطق، هناك أعداد هائلة من أتباع العقلانية والعلمانية في العالم الإسلامي قد ينجذبون ويدعمون مفهومًا دينيًّا أصوليًّا في العالم؟ ويبدو أنّ المسلمين الأصوليين يسيطرون على العالم الإسلامي، من مجموعات أصولية متطرّفة على غرار القاعدة وطالبان إلى منظمات أكثر نموذجية على غرار الإخوان المسلمين (في مصر) والجماعة الإسلامية (في باكستان). أين يمكن البحث عن الأجوبة؟
يزوّدنا كل من التاريخ وعلم الاجتماع، بدلاً من الفلسفة الفكرية، بعدسة من أجل السعي إلى تخطّي هذه الظاهرة الاجتماعية المتفاقمة.
ظهرت النهضة الدينية لتلازم، بشكل مألوف، التاريخ البشري خلال حقبات التبدّل الاجتماعي الهائل والاضطرابات السياسية. إنّها ظاهرة اجتماعية وتاريخية ملحوظة تتخطى الحدود والأعراق والحضارات. خلال احتلال المغول لروسيا مثلاً بين سنوات (1237و1480)، شهدت الكنيسة الأرثوذكسية إحدى أهم حقبات التطوّر. وقد برزت الظاهرة نفسها في الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر مع انطلاق الثورة الصناعية. باختصار، يولّد الاضطراب الاجتماعي ردّ فعل إذ يسعى المرء إلى بلوغ الاستقرار والأمن بالعودة إلى القواعد الأساسية والمألوفة. وغالبًا ما يتمثّل ذلك في الدين. ولا تختلف المجتمعات الإسلامية في هذا الصدد.
لقد أشار جايمس بيسكاتوري عن قناعة “أنّ الدين، خصوصاً، كونه أجاب في الماضي على أسئلة تتعلّق بالحياة والموت وزوّد أتباعه بروابط أخلاقية فيما بينهم، فانه يشكّل الوسائل التي يرغب الأفراد في الإجابة من خلالها عن السؤال الجديد المتعلّق بطبيعة الحداثة، وبالتالي للحصول ربما على وجهة نظر مشتركة عن الحياة. في هذا الصدد، يخضع معتنقو الديانتين المسيحية والإسلامية إلى الظاهرة المنتشرة ذاتها”.
ويرى بيسكاتوري أنّ الاضطرابات المصحوبة بالحداثة أساسية لإدراك نهضة الأصولية الدينية. وتشكّل الحداثة طريقًا مؤلمًا، فقد استغرقت في التجربة الغربية مئات السنين لتطوير مؤسساتها العلمانية والديمقراطية، غالبيتها من خلال التجارب والأخطاء. والحروب التاريخية داخل المسيحية، والاضطهاد السياسي، والمجازر، والثورة الصناعية، وتسخير العمّال، وبروز القومية، والحربين العالميتين، كلها أدّت إلى تبدّل كبير في جميع مجالات الحياة، السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية. ونحن نشهد اليوم إجراءات مشابهة من التبدّل في الدول النامية تلازمها تأثيرات مُضاعفة. ويكمن الفارق النسبي الوحيد في حصول التبدّلات بشكل أسرع في العالم الإسلامي (في النصف الثاني من القرن العشرين)، إذ تجلّت على مدى المئات من السنين في العالم الغربي.
لابدّ أن ندرك اختلاف إجراء الحداثة في العالم الإسلامي في الكثير من وجهاته. على عكس أوروبا إذ بدا إجراءً قوميًا تمامًا، بدأت الحداثة في المجتمعات الإسلامية نتيجة مباشرة للمواجهات الاستعمارية مع أوروبا. وبدلاً من الابتكار، بدت التجربة الإسلامية تقليدية في محاولة لبلوغ ما توصّل إليه الغرب. وقد انقسمت الدول الإسلامية إلى تيارين في الحقبة اللاحقة للاستعمار بطريقة غير سلمية: النخبة التي تلقّت ثقافة غربية وتشرّبت القيم العلمانية والكثير من القيم الأساسية لتي لم تملكها من قبل. وتحكم الكثير من الأنظمة مجموعة من الشيوخ المسنّين في حين لا تتعدّى غالبية شعوبهم الثلاثين من العمر. ومنذ حقبة الاستقلال الشكلي، فُرض الجزء الأكبر من التبدّل السياسي على المجتمع بشكل متسارع وليس تدريجيًا، من خلال إجراء قومي من التطور الاجتماعي والمفاوضات الديمقراطية.
ففي العام 1935 مثلاً، أمر الشاه الأب رضا بهلوي فرق الجيش بالنزول إلى شوارع طهران لانتزاع الحجاب عن رؤوس النساء عنوة بتسليط فوهة البندقية إليهن. وشهدت هذه السياسات مثيلاً لها في تركيا المجاورة من قبل كمال أتاتورك الذي سعى بعنف إلى عولمة المجتمع التركي ونسب الطابع الغربي إليه. وبعد مرور جيلين من الزمن، وبالأسلوب التسلّطي الذي اعتمدته مملكة بهلوي في إزالة الحجاب، فرض الثوريون شكل الإسلام الذي يؤمنون به على النساء الإيرانيات بالتشبّث والتزمّت ذاته. كذلك يمكن تفسير ظهور الإسلام السياسي في تركيا، بشكل جزئي، كردّ فعل معارض للسياسات الكمالية العلمانية التي فُرضت على المجتمع الديني، والذي يشكّل المسلمون 99.8 في المئة منه، بأسلوب عبثي بهدف استبعاد الطابع الإسلامي عن تركيا.
يجب علينا إذًا، واستنادًا إلى تلك الخلفية، أن نصنّف ونبحث في بروز الأصولية الإسلامية كظاهرة تاريخية، إذ يتم السعي إلى بلوغ حلول بسيطة لظاهرة اجتماعية معقّدة. في سياق السجال المتعلّق بالمبادئ الإسلامية، غالبًا ما يتم البحث عن تفسير عبر التركيز على طبيعة الإسلام العقائدية وثقافته المزعومة بمناهضة الحداثة. فمن خلال سعيه إلى القيام بذلك، وخصوصًا في عالم ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول، مقتصرًا بالتركيز على الفلسفة الفكرية من دون الفلسفة الاجتماعية والتاريخ، فقد حدّ من إدراكنا وأربك رأينا بشأن هذا الموضوع المهم والمفعم بالتأثرات.
نادر هاشمي
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1503 - الثلثاء 17 أكتوبر 2006م الموافق 24 رمضان 1427هـ