العدد 1502 - الإثنين 16 أكتوبر 2006م الموافق 23 رمضان 1427هـ

العلمانية الجديدة وفصل الطائفية عن الدولة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

ليست العلمانية قيمة بحد ذاتها، ولكنها مجموعة تدابير قانونية وسياسية يجري التوسّل بها من أجل حفظ حقوق المواطنة وتأسيس دولة القانون. والعلمانية بهذا المعنى ترتبط بالمجتمعات ذات التعددية الدينية والثقافية والعرقية، وهي عادة ما تكون من مطالب الأقليات والمهمّشين ضد طغيان الأكثرية والمهيمنين. وهنا لا فرق بين المسلمين وغيرهم، والعرب وغيرهم، فكل أقلية أو جماعة مهمّشة تطالب بعلمنة الدولة من أجل حماية كيانها وحقوقها ضد طغيان الآخرين، وهذا من حقها الطبيعي والإنساني.

وإذا كان المسلمون في العالم العربي قد وقفوا في وجه العلمانية فمردّ ذلك إلى سببين: الأول، أن العلمانية التي تواجهوا معها كانت علمانية أيديولوجية تدّعي تفسير كل شيء وتملك الحل السحري لكل معضلة، وهذا ما جعلها في تصادم مباشر مع الدين. والسبب الثاني، أن المسلمين في المجتمعات العربية يمثلون الأكثرية المهيمنة في مقابل أقليات دينية وعرقية تستميت في دفاعها عن العلمانية. ولو كان الوضع عكس ذلك لكان موقف المسلمين من العلمانية مختلفاً. ولنا على ذلك مثال يذكره حليم بركات في كتابه «المجتمع العربي المعاصر»، وهو مجتمع بورما (اتحاد ميانمار حالياً) في جنوب شرق آسيا، فهذا مجتمع ذو تعددية دينية، والمسلمون فيه أقلية يمثلون 4 في المئة تعيش وسط غالبية بوذية تمثل 89 في المئة، وتطالب هذه الغالبية بجعل البوذية دين الدولة الرسمي، فانبرى المسلمون يطالبون بعلمنة الدولة، ليس حماية لحقوقهم كأقلية فحسب، بل من أجل حماية «الوحدة الوطنية في المجتمع» في وجه صراعات داخلية قد تنفجر في أي لحظة. وبحسب السيد رشيد (وهو وزير مسلم سابق في حكومة ميانمار)، فإن جعل البوذية دين الدولة الرسمي «سيؤدي إلى صراعات نحن بغنى عنها... وإن أية محاولة من قبل الأكثرية الدينية لتؤمن لنفسها امتيازات إدارية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تربوية على أساس ديني ستقاومها الأقليات الدينية».

والذي ينسحب على سلوك الأقليات الدينية ومواقفها من العلمانية ينسحب على سلوك ومواقف الأقليات أو المهمشين عرقياً أو طائفياً أو أيديولوجياً. وذلك لأن جوهر المشكل لا يكمن في علاقة الدين بالدولة كما جرى تصويرها في خطاب العلمانيين الأيديولوجيين وخصومهم الدينيين سواء بسواء، وإنما يكمن في كل محاولة تسعى إلى استملاك الدولة وتفريغها من حيادها لصالح الدين أو الطائفة أو العرق أو الأيديولوجيا.

وفي التحليلات السياسية الكلاسيكية لدى توماس هوبز وجان جاك روسو وجون لوك وآخرين، يجري تصوير الدولة على أنها جهاز إداري اصطناعي وُجِد من أجل القضاء على الحرب الأهلية الشاملة أو «حرب الجميع ضد الجميع» أو «حال الطبيعة» state of nature السائدة في مجتمع ما قبل الدولة. ففي غياب الدولة ينخرط الجميع في تنافس شديد من أجل الحصول والاستئثار بالمنافع والخيرات العامة التي يرغب فيها الجميع. ومن أجل القضاء على حال الحرب الشاملة نشأت الدولة بما هي المحتكر الأوحد للقوة والسلطة، وبما هي المصدر الرئيسي لتوفير المنافع أو السلع العامة، وهي المنافع التي توفرها الدولة للمواطنين مجاناً أو بأسعار رمزية، وهي منافع غير قابلة للتقسيم ولا الاحتكار، بل من حق الجميع التمتع بها على قدم المساواة كتوفير الأمن، والرعاية الصحية، والتعليم الأساسي، والمواصلات العامة وغيرها.

لكن الذي حصل هو أن الدولة صارت موضوعاً للصراع والتنافس بين الجماعات والطوائف، بهدف احتكارها واستملاكها حصرياً والاستئثار بخيراتها وامتيازاتها ومنافعها العامة دون الآخرين. وتصبح هذه الحال عامة وشبه مقنّنة حين يجري استملاك الدولة طائفياً، الأمر الذي يجعل أتباع الطائفة يتصورون أن لهم دوراً متميزاً في الدولة، وأن الدولة دولتهم دون الآخرين، وأنهم أحق من غيرهم بالتمتع بالحقوق والامتيازات والخيرات العامة، فتكون لهم الأولوية في المناصب والخدمات والامتيازات العامة، بل قد يصل الأمر إلى حد تصبح فيه وزارات ومؤسسات ودوائر بكاملها حكراً عليهم دون بقية المواطنين من أتباع الطوائف الأخرى الذين يجري تصويرهم في صورة الغريب أو الطفيلي. وهو الأمر الذي يهدد بعودة التنافس الداخلي بين الطوائف، ومن ثم عودة «حال الطبيعة» داخل الدولة من جديد.

وإذا كان لهذا من معنى فهو أن حظوظ الدولة في تجاوز «حال الطبيعة» حظوظ ناقصة، ما يعني أن المجتمع قد يعيش «حال الطبيعة» حتى مع وجود الدولة. وهذا يعني ضرورة توفير ضمانات إضافية تسند الدولة وتجنّبها الانخراط في الصراعات الداخلية، بل تجنّبها الصراعات الداخلية التي تجري على مسرحها. وبعد هذا لا يهم أن نسمي هذه الضمانات علمانية أو ديموقراطية أو عقلانية، لأن الأهم من التسمية هو ضمان حيادية الدولة تجاه الجميع، وسيادة القانون على الجميع. وهذا لا يكون إلا حين يجري فصل الطائفية عن الدولة، وحين لا يقتحم أحد، ومهما كان أيضاً، هذه الحقوق باسم الطائفة. وإذا لم يتحقق هذا فلن تكون هناك نهاية للخلافات والانقسامات التي ستنشأ على الدوام بين من يملكون الاهتمام بصالح الطائفة، ومن يهتمون بصالح الدولة. كما سينشأ الصراع بين الطوائف نفسها، لأن الكل سيهتم بصالح طائفته على حساب الطوائف الأخرى. ولا سبيل للخروج من دوّامة الصراع الداخلي هذه إلا بحيادية الدولة تجاه الاختلافات الداخلية، وبضرب جديد من العلمانية يقوم على ضرورة فصل الطائفية عن الدولة. وحين يتحقق هذا ستكون «الخيرات المدنية والأمور الدنيوية» كالوظائف والترقيات والخدمات العامة متاحة أمام جميع المواطنين من دون تمييز على أساس طائفي.

وعلى هذا، فإن المطالبة بضرورة فصل الطائفية عن الدولة تنطلق من ضرورة جوهرية أعمق وهي ضمان حيادية الدولة وسيادة القانون وحفظ حقوق المواطنة. وبتعبير آخر فهي مطالبة بدولة تنظر إلى المواطنين كمواطنين وليس كأعضاء في طوائفهم.

وبحسب دستور مملكة البحرين للعام 2002 فإننا لا نعيش في دولة «علمانية» لأن الدستور ينص بوضوح في المادة (2) على أن «دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع»، وفي ديباجة الدستور، وهي جزء لا يتجزأ من الدستور، نص صريح كذلك على أن «شعب البحرين العريق مؤمن بأن الإسلام فيه صلاح الدنيا والآخرة... وأن القرآن لم يفرّط في شيء». وبحسب المبادئ التقليدية في العلمانية فإن الدولة الحيادية لا دين لها، لأن الدولة والدين، كما يكتب جون لوك، كيانان منفصلان، و»الحدود بينهما ثابتة ومستقرة، ومن يخلط بين هذين المجتمعين كمن يخلط بين السماء والأرض، وهما متباعدان أشد التباعد ومتضادان أشدّ التضاد».

ومع هذا فإننا نعيش، أو هكذا ينبغي أن يكون بحسب نص الدستور أيضاً، في دولة دستورية وديمقراطية وتقوم على حقوق المواطنة، وأن المواطنين سواء في تولي الوظائف العامة (مادة 16/ ب)، والتمتع بالخيرات العامة، وأن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة» (مادة 18).

كل هذا كلام جميل ومهم، إلا أن هذا لا قيمة فعلية له إلا حين يجري تنظيمه في قانون يجرّم التمييز الطائفي بين المواطنين، وفي هيئة تنشأ بقصد مناهضة هذا النوع من التمييز ورصد كل حالاته وتجلياته. ومن المؤسف حقاً أن البرلمان قد أجهض، في فصله التشريعي السابق، فرصة ذهبية لولادة قانون مناهضة التمييز الطائفي الذي طالب به بعض النوّاب. ومما يبعث على الأسى والإحباط أن تنتهي هذه المطالبة إلى أداة تعيد إنتاج الانقسام الطائفي الذي يهدف القانون إلى تجاوزه، ما يعني أن سوء أوضاعنا بلغ درجة يتعذر تجاوزها إلا بمبادرة جريئة وتدخّل مباشر من قبل عاهل البلاد الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وذلك بحكم موقعه السياسي والرمزي، وبحكم أنه، وهذا بنص الدستور «رأس الدولة، والممثل الأسمى لها، والحامي الأمين للوطن، ورمز الوحدة الوطنية» (مادة 33/ أ)، وأن جلالة الملك هو مرجعية الاحتكام الأخير في وجه كل الانقسامات والاصطفافات الطائفية التي بلغت مرحلة تعطلت فيها أي إمكانية لظهور فاعلين سياسيين واجتماعيين قادرين على تحقيق الإجماع الوطني وتأمين الوحدة الوطنية حتى في حدودها الدنيا والضيّقة كالتي حدثت إبان تأسيس هيئة الاتحاد الوطني (1954 - 1956).

لقد نصّ الدستور على أن الملك هو من «يرعى حقوق الأفراد والهيئات وحرياتهم» (مادة 33/ ب)، ونص الدستور كذلك على أن «للملك حق اقتراح القوانين» (مادة 35/ أ). وبما أن حقوق المواطنين التي يرعاها الملك لا سبيل إلى صيانتها إلا بقانون يناهض التمييز الطائفي بينهم، فإن كل أملنا أن يتفضّل جلالة الملك باقتراح «قانون مناهضة التمييز الطائفي» على البرلمان المقبل، وأن يرعى جلالته المهمة التاريخية من أجل تأسيس حيادية الدولة و»فصل الطائفية عن الدولة»، وتجنيب البلاد والعباد شرور الانقسامات الداخلية والاصطفافات الطائفية التي لا يعلم أحد إلى أين يمكن أن تنتهي بنا وبالوطن

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1502 - الإثنين 16 أكتوبر 2006م الموافق 23 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً