ثلة من أعضاء مجلس الأمة الكويتي قدموا الأسبوع الماضي إقرارا بذممهم المالية إلى رئيس مجلس الأمة، في تظاهرة رمزية للفت النظر إلى أهمية مثل تلك الخطوة في ترقية العمل السياسي في الكويت، وهو أمر مرحب به على كل الصُعد. ففكرة الشفافية التي هي في جزء منها محاربة الفساد، تتطلب أن يكون أولو الأمر، ومنهم طبعاً أعضاء مجلس الأمة، قابلين وراغبين في أن تكون أعمالهم واضحة للجمهور العام، ولا يستفيدون بالقطع شخصيا أو من خلال طرف ثالث بما يتاح لهم من قدرات تقريرية في الشأن العام.
إلا أن مناقشة الأمر تتخطى الشكل إلى المضمون، فالفساد في أكثر تعاريفه شيوعا هو «استخدام سلطة متاحة لتحقيق مصلحة ذاتية» وهو بهذا المعنى الواسع يتعدى «الذمة المالية» للشخص ليصل إلى «الذمة المالية» للأقارب المباشرين، وأيضا «الذمة الأخلاقية» فتمرير قانون يستفيد منه البعض دون غيرهم هو «فساد» من نوع ما، والحصول على ترخيص «ملتبس» لقريب أو بعيد بسبب السلطة، هو أيضا نوع من الفساد. فالفساد فيه ظاهر وفيه باطن.
الكشف عن الذمة المالية وإصدار قانون تحت مسمى «من أين لك هذا؟» للممارس العام، سواء كان وزيرا أو نائبا أو موظفا كبيرا هما من سمات التقدم في المجتمع. ونجد أن مثل هذه القوانين مطبقة ومرعية في الدول المتقدمة. في بريطانيا مثلا نسمع عن وزير الخارجية السابق جاك سترو أنه وثق «ترقيته» في سفرة من سفراته في مهمة رسمية من درجة رجال الأعمال إلى الدرجة الأولى، على أنها «مكافأة» من شركة الطيران، والفعل للكثيرين بسيط لا يستحق التنويه عنه، إلا أن القانون هو القانون. وأيضا نُشر في الصحف أن رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير قد وثق العام الماضي في بدء الفترة البرلمانية (وهو التوقيت المطلوب قانونا لتسجيل المستجدات المالية) أنه تمتع بإجازة في الأردن على حساب الملك الأردني، وليس على حساب دافع الضرائب البريطاني. أما نائب رئيس الوزراء البريطاني جون برسكوت فقد اعتذر علنا لمؤتمر حزب العمال الأخير عن قبوله دعوة من أحد المستثمرين، ما شكل له شبهة فساد، وبناء عليه قرر اعتزال السياسة.
في الواقع العربي هناك برلمانات وحكومات مازالت تعارض سن مثل تلك القوانين التي تقود إلى كشف الذمة المالية للممارس العام ورجل الدولة والشخص المنتخب، لعدد من الأسباب كثير منها غير مقنع عقلا، وتثار هذه القضية بين فترة وأخرى في بلاد عربية تمارس شيئا من الحكم الديمقراطي. في قاع الممانعة لإعلان الذمة المالية العلنية تخوف غير مبرر، إذ إن البعض ما انفك يستخدم السلطة المتاحة له لجلب منفعة ذاتية. ففي مصر تفجرت قضايا كثيرة في السنوات الأخيرة، مثل قضية محافظ الجيزة السابق ماهر الجندي، أو رئيس بنك التنمية يوسف عبدالرحمن أو غيرهما من المسئولين الذي وجد أن ثرواتهم تضخمت إلى حد الإطلالة من جيوبهم، كما يقول التعبير الرمزي. وفي اليمن ثار السؤال عن ثروات المسئولين إبان المعركة الانتخابية الأخيرة، ودخل البعض هناك في معارك صحافية عن تلك القضية الشائكة على خلفية صدور قانون «براءة الذمة المالية». أما في البحرين فقد افشل مشروع قانون منذ فترة في المجلس المنتخب وكان مشروع القانون يدعو إلى كشف الذمة المالية للأعضاء. وأسوأ ما نقل هو إحالة سبعة عشر برلمانيا مغربيا إلى التحقيق بتهمة «شراء ذمم الناخبين».
المال والمنفعة والسياسة اقترانهم السلبي ليس جديدا على تاريخ الحكم، سواء كان هذا الحكم تراثيا تاريخيا أو حديثا. إنها «أسلحة دمار شامل» من نوع ما، تدمر النسيج السياسي للمجتمع.
في تراثنا العربي هناك من القصص ما يملأ الكتب ويفيض، في تأكيد حرمة اقتران مصاريف المسئول الشخصية بخزينة بيت المال. وكثير منا قرأ القصة المشهورة التي تنسب لعمرو بن العاص أنه قام بإطفاء الشمعة التي يستنير بها عندما انتهى من مطالعة الشئون العامة، على أساس أن أية شئون خاصة يجب أن يطالعها في ضوء شمعة اشتراها من ماله الخاص، وكيف أن أبابكر الصديق خرج إلى السوق متاجرا، بعد اختياره خليفة للمسلمين، كي يكسب عيشه، لولا أن رده عمر (رض). أما الإمام علي (كرم الله وجهه)، فقد خاطب أهل الكوفة بقوله: «إذا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فأنا خائن».
فالفكرة الرئيسية في عزل الخاص عن العام هي فكرة قديمة، وإلى جانب أنها فكرة نبيلة فهي بالتأكيد فكرة لا يقوم الحكم الصالح إلا بها. وقام بتطوير هذه الفكرة بشكل مؤسسي المؤسسات البرلمانية الغربية الحديثة.
إنها عملية طويلة ومنظومة متكاملة ومتدرجة يحكمها القانون. فالقانون في الولايات المتحدة مثلا لا يسمح للمسئول أن يحصل على «هدية» من أي نوع إلا ويقوم بالإعلان عنها، وإن كانت تتجاوز «الرمزية» فهي لبيت المال، أي ملكية عامة. ويعاقب المسئول في بريطانيا عقابا فظا إن تجاوز الأعراف المتبعة والقوانين السارية في خلط «الشخصي» بـ «العام»، ويتطلب القانون أن يعلن الرجل أو المرأة ذو المسئولية العامة عن كل دخلهم وحركة ممتلكاتهم الشخصية سنويا، وأية شبهة تلاحظ في تلك الحركة تخضع للمساءلة بحسب القوانين المرعية.
وجود القانون بحد ذاته لا يعتبر رادعا عن الفساد، في مصر مثلا قوانين كثيرة وتشريعات تقنن محاربة الفساد، أما الواقع فإن ما ينشر من حكايات تقود إلى قناعة أن القانون غير فعال، فالمسئول عادة في مجتمع عربي تسكنه حال من «السلطة» المطلقة تشكل هالة ممانعة تجعله فوق القانون!
العالم تقدم كثيرا في المساءلة وخصوصا مساءلة المسئولين في الحكم في قطاعاته الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، فقد أصبحت محاربة الفساد قضية دولية وليست محلية، وهناك منظمة الشفافية العالمية التي أسقطت تقاريرها عن الفساد عددا من الحكومات، ولها اليوم فروع في الكثير من الدول. كما أن موقع الأمم المتحدة على الشبكة الدولية، أصدر أخيرا ما سماه بنشرة «الفساد»، وهي قائمة مبنية على تهرب بعض ممثلي الدول عن دفع غرامات مخالفة السير في المدينة الكبيرة: نيويورك، وهي فضيحة بحد ذاتها. واستشهد بهذا التقرير عن «قيمة» وانتشار الفساد في تلك المجتمعات، وليعذرني القارئ عن عدم التسمية لأنها فضيحة! ولكن اللافت أنها جميعا دول من العالم الثالث (بعضها عربي)!
بالعودة إلى إقرار الذمة المالية الذي قدمه بعض أعضاء مجلس الأمة في الأسبوع الماضي... على رغم أهمية الخطوة، فإنها خطوة في الفراغ، إذ لا توجد آلية قانونية لمتابعة هذا الأمر، ولا يوجد سند قانوني لتفعيل المتابعة. فالإقرار في أفضل توصيف له، فعلُ رمزي لا تلحقه خطوات تنفيذية، فمن هي الجهة التي ستقول لنا كجمهور إن هذا العضو في البرلمان أو ذاك المسئول، في آخر حياة البرلمان الحالي، قد زادت أو نقصت ثروته الشخصية أو ثروة الأقربين منه! أو ثبت استخدامه للسلطة لمصلحته.
محاربة الفساد فعل قانوني وأخلاقي بعيد الغور يتطلب قانونا قابلا للتطبيق، مع وجود مؤسسة مستقلة رقابية فاعلة. وهو بذاته له أهمية قصوى في الإصلاح المنشود، وبذلك فإن الخطوة التي تمت وجب النظر إليها على أنها الأولى في طريق طويل، ومن غير أعضاء المجلس قادر على وضع قانون «له أسنان» لتفعيل قول نطق به سمو الأمير الراحل (طيب الله ثراه)؟ إذ قال في افتتاح دور الانعقاد الأول في الفصل التشريعي الثامن (أكتوبر/ تشرين الأول 1996) ما نصه: «أبشع مخالفات القوانين ما يرتكبه مشرعوها» وهو قول فصل
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1502 - الإثنين 16 أكتوبر 2006م الموافق 23 رمضان 1427هـ