منذ أن حسم المترشحون أمورهم ودوائرهم الانتخابية، دخل الكثير منهم في تحديات حقيقية وصعبة للتعريف بأنفسهم والتعرف إلى أهالي الدائرة الانتخابية في الزمن القياسي الذي يحدده القانون، (خمسة وأربعون يوما للدعاية الانتخابية)، إلا أنها هذا العام ليست خمسة وأربعين بالتمام والكمال، فبدءا من يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول، بعد انتهاء فترة التقدم بطلبات الترشح إلى 24 نوفمبر/ تشرين الثاني (اليوم الذي يسبق يوم الانتخاب) يكون أمام المترشح تسعة وثلاثون يوما فقط.
المترشحون الذين لا يمتلكون علاقات مباشرة مع الناس في دوائرهم المحدودة ولا يمتلكون مفاتيح دينية أو اجتماعية انتخابية مؤثرة، بمعنى أنهم من يقومون بالتأثير، يواجهون الصعوبة الأكبر، حتى وإن كان تاريخهم النضالي حافلا ومدافعتهم عن المواطنين شغلهم اليومي. لماذا هذه الحال؟ الحال كذلك لأن نظام الانتخاب البحريني يعتمد على الدوائر الصغيرة وتفتيت الأصوات، وبالتالي تهدر أصوات أهل المترشح وأنصاره خارج دائرته حتى وإن كان زعيما وطنيا صنديدا طوال سنوات عمره.
هؤلاء المترشحون الأشداء ذوو الأجندات الوطنية الشعبية، يحصلون على نسبة أوتوماتيكية تبلغ الـ 15 في المئة وفق الدراسات الخاصة بالانتخابات، ولكن هذا إذا كانت نسبة الوعي السياسي لدى عامة الناس عالية، أما في البحرين فعلى رغم الحراك السياسي الساخن، تبقى هناك نسبة لا بأس بها من الناس لا تهتم إلا بأمور معيشتها اليومية وتدور يوميا في دوائرها المعرفية والجغرافية المعتادة، وهؤلاء قد يشكلون أهدافا سهلة لمصطادي الأصوات ذوي الأجندات والمنافع الشخصية.
لنر ما فعل بعض المترشحين الجدد في بعض الدوائر. واقع الحال يشهد أن بعضهم بدأ مبكرا بشهرين أو ثلاثة أشهر مضت أو حتى أكثر، ودخل المنطقة تحت مسميات رنانة لمشروعات ضخمة ثم تحالف مع مفاتيح خبيرة لكسب قلوب الناس وتوزيع الهدايا الخاصة في المهرجانات، ليست حقائب جلدية بسبعمئة دينار كما حدث في الكويت، ولكنها هدايا ومنافع خاصة غير معروفة الثمن. لاحظنا أيضا تكرار المهرجانات الاجتماعية التي وزعت فيها البالونات ونصبت فيها ألعاب الأطفال، وقد لا يبدو ذلك مستهجنا على السطح، بل قد تكون تلك الطريقة الأسرع للتعريف الاجتماعي الأولي بالمرشح القادم إذا لم يكن المهرجان مصحوبا ببخ الأموال على الأفراد، ولكن هل البالونات كل شيء ولا شيء يتداول تحت الطاولة؟
كانت الكثير من الجمعيات الأهلية سابقا تقيم المهرجانات للتعريف بأنشطتها وتسويق مشروعاتها، مع فارق واحد، أن الجمعيات الأهلية كانت تبيع على الناس المنتجات والمشغولات بأسعار رمزية، وعلى الأغنياء بأسعار مرتفعة بهدف تمويل الأنشطة المستقبلية، أما بعض مهرجانات اليوم، فتستتبع بما هو أكبر. فالبعض لديه موازنات مفتوحة، والبعض الآخر مدعوم من تحت الطاولة من قبل جهات رسمية ما أو أفراد ما، وهذا يضعه في موضع مالي مريح جدا مقارنة بغيره، الذي لا يمتلك سوى بضعة آلاف من الدنانير وخطاب سياسي لا يستوعبه البسطاء بسهولة.
المعضلة أن نسبة لا بأس بها من العامة أنفسهم يوصون ويرحبون ويكتفون بالمهرجانات لإسعاد أطفالهم، وببضعة وعود صغيرة، لعدم علمهم بحجم حقوقهم الكبرى التي يتم التلاعب بها من توزيع لا شرعي للأراضي، وسوء تخطيط إسكاني وتهاون، وتجنيس جارف يأكل الأرض والبحر ويسرق بسمة الأطفال وحاضرهم ومستقبلهم.
الكثير من المترشحين المؤهلين حسموا أمورهم في اللحظات الأخيرة في تردد مفهوم، مقابل المفاسد الكثيرة التي لاحظوها، فهناك إصرار حكومي على التصويت الالكتروني من دون استفتاء شعبي، والتراجع قبل أيام قلائل، وتجنيس شاهر ظاهر بهدف التزوير غير المباشر لنتائج الانتخابات، ومؤامرات انقلابية على المواطنين خلف الكواليس. ولكن هؤلاء المترشحين أخيرا اختاروا القتال الشرس لرفع راية الناس ومحاولة توجيه مسار هذه المؤسسة التشريعية المنقوصة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهداف وطنية عبر طرح القضايا الشعبية على أساس مبدأ المواطنة والوحدة الوطنية.
وبالعودة إلى تأثير المال وكيفية وكمية استعماله، فإن المنظمات العاملة في مجال الانتخابات مثل مؤسسة آيفس (IFES)، وهي منظمة دولية ذات طابع تطوعي تدعم فكرة إنشاء المجتمعات الديمقراطية، قد بدأت منذ العام 2003 برنامجا للتمويل السياسي وأخلاقيات العامة (Program on Political Finance and Public Ethics)، تزود به الدول بخلاصة النماذج المجربة بغرض النهوض بالشفافية المالية في المجال السياسي، وإصلاح التشريعات والمسلكيات المتعلقة بالتمويل السياسي، وتقوية الضوابط لعمليات التمويل، وتعزيز قدرة مؤسسات المجتمع المدني على المراقبة وكتابة التقارير بشأن أنشطة التمويل السياسي، والتربية المدنية لزيادة الوعي المجتمعي عن عمليات التمويل السياسي، ومساعدة الأحزاب السياسية على تنويع مصادر التمويل بشفافية. وفي بعض مقترحات المشروعات يوصي نواب استراليون سابقون حتى بمنع النقابات والشركات من المساهمة في تمويل حملات الأحزاب السياسية حتى لا تشتري هذه النقابات والشركات بأموالها تأثيرا ما لصالحها من قبل الحزب الفائز. ربما يكون الوضع لدى تلك الدول مركبا نوعا ما والتجربة متجذرة، إلا أن هذا لا يمنعنا من التفكير منذ الآن، فنحن وإن شكلنا نموذجا انتخابيا فتيا، فإنه بإمكاننا إرساء قيم واتجاهات أخلاقية في ذهن المواطنين، ومع مرور الوقت ستتحصن الغالبية ضد محاولات الشراء السياسي من قبل البعض حتى لو كانوا في أشد الحاجة والضيق. للمال تأثير تخريبي معروف في توجيه الولاءات وشراء الذمم وحرف القناعات عن القضايا الكبرى إلى المصالح الذاتية الضيقة، والمترشحون الشرفاء يدركون ذلك جيدا ولكن ذلك لا يهيبهم، وحتى وسط كل هذه المكائد تبقى بوصلتهم واضحة، وعيونهم مفتوحة بجرأة وثبات في عيون من ركب على رقاب المحتاجين والانتهازيين ومهما سهلت بعض الوسائل غير الشريفة في الاتصال بالناخبين فإنها تبقى غير شريفة
إقرأ أيضا لـ "فريدة غلام إسماعيل"العدد 1502 - الإثنين 16 أكتوبر 2006م الموافق 23 رمضان 1427هـ