العدد 1502 - الإثنين 16 أكتوبر 2006م الموافق 23 رمضان 1427هـ

معادلة «الدولة» و«الطائفة» في العراق ومخاطرها الإقليمية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

إعلان 11 تنظيماً عن قيام «دولة إسلامية» في العراق يكشف في نهاية التحليل ذاك الخلل الذي تعاني منه دول منطقة «الشرق الأوسط». فالإعلان كما يقول جاء رداً على تبني مجلس النواب دستور «الاقاليم» العراقية. فالذريعة هي الرد على التقسيم الفيدرالي بإعلان التقسيم الطائفي/ المناطقي.

جاء هذا التطور إلى الوراء في سياق تحولات ميدانية كثيرة منها اتساع ظاهرة قطع الرؤوس والقاء الجثث «المجهولة» الهوية وإرهاب الناس وتخويف العائلات وإكراهها على مغادرة مدنها وقراها إلى مناطق متجانسة طائفياً ومذهبياً. كما جاء الرد في إطار إعلان حاكم كردستان مسعود بارزاني عن انزاله العلم العراقي واستبداله بعلم الاقليم.

العراق اليوم وبعد أكثر من ثلاث سنوات على احتلاله بات امام احتمالات ثلاثة وهي ظهور ثلاثة أقاليم في ثلاث مناطق تتعايش سلمياً في ظل دولة شكلية، أو تتصادم الاقاليم الثلاثة في حروب «حدودية» لترسيم مناطق النفوذ وتطبيعها مع الواقع، أو اعادة انتاج «دولة» جديدة تقوم على فكرة الاتحاد ولكنها عملياً تتقاسم السلطة وفق شروط تلبي حاجات المناطق. والمرجح بين الاحتمالات الثلاثة في ظل الاحتلال هو ذهاب الاقاليم إلى التصادم سياسياً بذريعة ترسيم حدودها الفاصلة.

هذا هو واقع العراق اليوم بعد احتلاله وتقويض دولته. وكل كلام آخر عن «الحرية» و»الديمقراطية» و»اقتصاد السوق» لا معنى له. فهو كلام يقال للتغطية على الكارثة التي اسقطتها السياسة الأميركية على المنطقة وانتهت الآن إلى العبث بأمن المواطن وتهديد مستقبله وإكراهه على الخضوع لولاءات مفروضة بالقوة عليه أو بأمر حكم الواقع.

العراق الآن أمام استحقاقات خطيرة وأخطر بكثير من تلك الانباء اليومية التي ترد من بلاد الرافدين وتتحدث عن وقوع عشرات القتلى بالمفخخات مضافاً إليها عشرات الجثث المتناثرة طائفياً ومذهبياً على المناطق. فالعراق بات يواجه وقائع ميدانية أخذت تتأسس على معادلات طائفية/ مذهبية تحاول جذب أكبر مساحة جغرافية لهذا «الإقليم» أو ذاك. والمشكلة في نظرية الاقاليم (الفيدرالية) العراقية انها تدمج الجغرافيا بالصفاء العرقي أو بالتجانس الطائفي/ المذهبي. أي ان الاقاليم هي اقرب إلى صيغة «الكانتون» الذي يعلِّب الناس في خصوصية مذهبية لا تقبل التعدد والاختلاف. وهذا النوع من «الكانتونات» هو الاخطر لأنه لا يعتمد المكان (الجغرافيا) اساساً للانتماء ولا اللغة ولا الدين ولا التاريخ ولا الثقافة ولا حتى العرق أو الجنس. المشكلة خطيرة جداً وخصوصاً اذا نظر اليها من خارج حدود العراق. فهذا النوع من التقسيم الفيدرالي له امتدادات خارجية ويتصل بحدود نسبية في اطر مذهبية وطائفية تتجاوز نطاق بلاد الرافدين.

الدويلة الكردية مثلاً في الشمال لا يمكن لها ان تستمر من دون ان تأخذ في الاعتبار تلك الامتدادات العرقية (الاقوامية) في تركيا وإيران وإلى حد ما شمال شرق سورية. والدويلة الشيعية في الجنوب أيضاً لا تستطيع ان تستقل من دون ان ترتب علاقاتها المذهبية الممتدة إلى ايران وغيرها من دول الجوار العربي. والدويلة السنية في الوسط أو الغرب من الصعب ان تقوم من دون اقامة صلات أو اتصالات جغرافية مع امتدادات مذهبية مشابهة خارج حدود العراق.

المشكلة اذاً ليست محلية فقط وانما إقليمية ايضاً. فهي اصلاً تقوم على فكرة خاطئة وفي الآن تتشكل قوتها من امتداداتها الخارجية الأمر الذي يفاقم سلبيات الخطأ ويجعله يتمدد زئبقياً خارج الحدود.

خطورة الإعلانات عن قيام «أقاليم» في الشمال والجنوب والوسط أو الغرب لا تقتصر فقط على اضطراب الداخل العراقي واحتمال انجرار «دويلاته» إلى حروب أهلية/ حدودية لترسيم مواقع النفوذ وتوزيع الحصص والمغانم وانما تمتد الخطورة أيضاً إقليمياً لانها ستدفع بالقوى المحلية إلى استنهاض مشاعرها الطائفية والمذهبية والتحرك في سياق مخالف لطبيعة التطور السياسي للشعوب.

دويلات ضد السياسة

السياسة عادة تقوم على فكرة التسوية بين الاجتماع البشري والدولة ولذلك تتجه السياسة نحو تركيب المتناقضات على أساس وحدة المصالح ووحدة المصير ووحدة الأهداف. فالسياسة هي إدارة شئون الناس ضمن صيغة دستورية تضمن عدم التطرف أو الهيمنة أو التسلط وتخضع كل الاطراف إلى قانون عام (نظام عام) لا يميز بين الناس ولا يفرز المناطق إلى هويات متقاتلة أو متجانسة.

ما يحصل في العراق يخالف التطور السياسي للشعوب وهو اساساً ضد السياسة وضد العقل وضد الواقع.

انه بكل بساطة يدفع بالبلاد نحو العودة إلى ما قبل السياسة وتطويع الناس واخضاعهم إلى قوانين الطبيعة «المتوحشة» التي كانت تسود علاقات البشر قبل تهذيبها وعقلنتها ضمن صيغ حضارية لعب الإسلام دوره التاريخي في صنعها وتقديمها للناس. «الدويلات» العراقية التي بدأ الاعلان عنها في صيغ شتى «اقليمية» أو «عرقية» أو «طائفية» أو «مذهبية» تقوم اصلاً ضد فكرة الدولة. فالدولة لها تعريف يخضع دستورياً لمجموعة شروط تتصل بالجغرافيا أو بالتاريخ أو باللغة أو بالدين أو بالثقافة ومن ثم يعاد انتاج الشروط في صيغ سياسية/ دستورية تشكل هيئة عليا تضبط المصالح في إطار مشترك يعتمد وحدة المصير والأهداف.

كل هذه الشروط السياسية والطبيعية والاجتماعية متوافرة سلباً في «الدويلات» العراقية وممتدة أيضاً جغرافياً ومتصلة ثقافياً ببعضها في داخل بلاد الرافدين وخارجها. فالجغرافيا تربط نهرياً (دجلة) الشمال بالوسط بالجنوب، كذلك ترتبط المناطق بالتاريخ والدين أيضاً. وبسبب هذا الترابط يصبح التقسيم صعباً. وبسبب صعوبة التقسيم يمكن توقع الكثير من المجازر والمذابح لتحقيق سياسة العزل وفك وحدة المصالح والمصير والأهداف تمهيداً لذر الناس وتشتيتهم إلى طوائف ومذاهب وقبائل موزعة على مناطق يراد لها ان تكون متجانسة لتبرير قيام دويلات إقليمية.

هذا لا يعني ان الاختلاف أو التقسيم الموروث ليس موجوداً بين الشمال والجنوب والوسط والغرب. ولا يعني ان التجانس الثقافي أو المذهبي أو القبلي غير موجود بغالبية نسبية في هذه المنطقة أو تلك. إلا أن هذه الشروط الغالبة في مكان متشابهة ايضاً في مكان آخر. وهذا التشابه يجرجر الجوار إلى السقوط في فراغات. كذلك فإن هذه الشروط غير ناضجة تاريخياً ولا تعطي الذريعة السياسية الكافية للاعلان عن نهوض «دويلات» وأقاليم باسم الدستور الفيدرالي أو القومية أو الطائفية. فالواقع المنقسم موجود قبل الاحتلال إلا أن الأخير زاده تعقيداً واعتمده سياسة وحيدة لتقويض علاقات المجتمع بعد أن نجح في تقويض الدولة. وهذا ما بدأ ينجح فيه الاحتلال بعد أن فشل مشروعه في الجوانب المعلن عنها.

إعلان 11 تنظيماً عن قيام «دولة إسلامية» ليس بشرى للأمة ولا يبشر بالخير. فالإعلان مجرد بيان يشبه تلك التصرفات التي أملت على بارزاني رفع العلم الكردي أو ذاك المجلس النيابي الذي وافق على دستور يجيز قيام «اقاليم» جغرافية تحت وطأة التوزع الجغرافي للمذاهب والطوائف. فالمسألة ليست اعلانات وانما هي تخضع في النهاية لمعادلة الواقع وقوانين التطور السياسي. وحين يكون التطور خطوة انفعالية إلى الوراء فمعنى ذلك ان «الدويلات» لن تحتكم إلى السياسة لتسوية الاختلافات وانما ستلجأ إلى اسلوب الاقتتال لترسيم الحدود. وبما ان الحدود ليست مقفلة لا في داخل العراق ولا في خارجه فالمرجح ان يكون للاقتتال امتداداته.

مشكلة العراق التي اختلقتها السياسة الأميركية لا تقتصر على الكوارث المحلية وانما خطورتها تكمن في أبعادها الإقليمية وانعكاساتها السلبية على منظومة الأمن واستقرار دول الجوار

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1502 - الإثنين 16 أكتوبر 2006م الموافق 23 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً