لم أجد رأياً لعالم غربي أنفس مما قاله عالم الأركيولوجيا الفرنسي ميشيل فوكو (1926 - 1984) بشأن الثورة الإسلامية الإيرانية التي بدأت بواكيرها مع مطلع ستينات القرن الماضي، لتنتهي بسقوط عرش الطاووس في الحادي عشر من فبراير/ شباط 1979. فوكو وصف الثورة الإسلامية في إيران بالحدث العجيب، لأنه «ومن أجل إسقاط نظامٍ ما نحتاج إلى أكثر من هذه العواطف الجيّاشة في القرن العشرين، نحتاج إلى سلاح، إلى مركز قيادة، إلى تنظيم وإلى دعم لوجستي، لكن ما حدث في إيران جعل المراقبين في حيرة من أمرهم، فلا توجد في الثورة تأثيرات صينية ولا كوبية ولا فيتنامية، بل هو زلزال بحري من دون جهاز عسكري، من دون طلائع ومن دون حزب».
كان فوكو يرى أن ما حدث في إيران هو «أول ثورة ما بعد الحداثة في عصرنا الحاضر، أو بعبارة أخرى أول تمرد كبير ضد الأنظمة الأرضية... وأحدث أشكال الانتفاضة «قارئاً لها من خلال النموذج المادي الفيزيائي والتنظيم أوثنائية نهاية بنية مشروعات الحكومات الإنسانية، والثاني رؤيته بأنها (أي الثورة) هي تمرد المعارف والعلوم المنقادة والمحلية على الحقائق الغالبة المستقرة والمصدَّق بها، بالإضافة إلى الروحانية والمعنوية الدينية التي هي بمثابة تقنية ونهج لبناء القدرة وفرضها من الأسفل، وثالثاً على أنها إبطال نسبي لتقنيات السلطة، مع إشارته الواضحة إلى أن «هناك نوعاً من الانسجام والتقارب بين حاجات الفرد في التغيير والتطور والإسلام، إذ كان الدين في عملية الثورة التعبير الأمثل للمطالبات العامة».
الموضوع أيضاً له اجترار آخر يُفيد بأن الثورة الإسلامية ألغت النظريات ذات العلّة الواحدة في مجال دراسات علم الثورة (كما يقول عبدالرحيم عيوضي) كنظرية الصراع الطبقي (كارل ماركس) والتضامن الاجتماعي (ميل دوكهايم) والكريزما والتحرك الاجتماعي (ماكس فيبر) والواقعية السياسية (ويلفردي بارتو) ونظرية علم النفس الفردي (دوتوكيل)، كما لم تتسق إرهاصاتها ولا حركتها مع النظرية البنيوية (تيدا سكاج بل) التي ترى أن أهم عوامل الثورة هي العوامل البنيوية لعجز السلطة وعدم فاعليتها والعوامل الدولية والظروف الاستثنائية والتضاد الحاصل بين البنية العامة وبين الطبقات الاجتماعية - الاقتصادية للدولة، وكان أبرز تضاد بين حوادث الثورة وتلك النظرية هو أن الثورة لم تكن ثورة أرياف وقرويين بل كانت الآيديولوجيا والتعبئة والقيادة الصبغة الغالبة عليها (رضا فاضلي).
هذه النظرة الغربية (العلمانية) للثورة الإسلامية هي أفضل ما سمعته من الغرب كما قلت، إلاّ أن أسوأ ما سمعته من الشرق هو التصريح الأخير لأحد منتسبي جماعة المهدوية في إيران (التي ترى حُرمة قيام دولة إسلامية إلاّ على يد الإمام المهدي) محمد حسين كاظميني بروجردي (45 عاماً) عندما دعا من فناء حسينيته بشارع أوستازقة في العاصمة (طهران) إلى ضرورة العودة إلى الإسلام «التقليدي» وأنه «ملّ من دولة يحكُمها الإسلام»! الرجل وعلى رغم أنه لا يملك حظوظاً تُذكر في السياسة ولا يفقه ما يجري في العالم وحوله من حوادث إلاّ أنه امتهن سيمفونية تجيير تلك الأقوال لصالح أهداف سياسية قد تتبين مراميها لاحقاً، وعلى رغم أن هذه المقولة التي اعتمرها كاظميني هي مقولة يختلط في أحشائها السياسي بالمعرفي فإن صيرورتها كالحرباء في أعين قائليها قد مكّنها من الحضور (باستدعاء أعوج) في الكثير من المواقف والحوادث على شكل «رواية» وليس «دراية»، وبترديد لقوالب جاهزة تتم استعارتها من دون فهم لمضمونها.
الرجل الذي لم يَرِث عن أبيه سوى فكر رتيب عن الإسلام، وطلاسم غيبية عن علاقات من نوع خاص بنواب الإمام المنتظر، صوّره الإعلام الغربي والعربي معاً على أنه أحد أساطين المدماك العلمي في إيران! مستفيداً بطبيعة الحال من الخلط الكبير والهرج الذي بدأ يجتاح الحوزات العلمية في السنوات الأخيرة بشأن التسميات والألقاب العلمائية، إذ أضحت ألقاب مثل «آية الله» و»حجّة الإسلام» وغيرهما من الألقاب التي تطرب لها الأذن، نُعوتاً تُشتَرى من دكاكين الأحزاب والتيارات السياسية في العالم الإسلامي، بل وحتى بين أواسط المهاجرين في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي فإن الرجل ليس له حظٌ من العلم أكثر مما هو لديه، إلاّ أن إظهار العداء للنظام في إيران وحده يكفي لكي يُعرّفك الغرب جيدًا.
الحقيقة التي يجب أن يعيها المسلمون اليوم وتحديداً الشيعة منهم أن النظام الإسلامي الموجود في إيران هو التمظهر العملي الأول للإنتاج الفقهي الشيعي منذ زمن سحيق، على رغم أن أطروحات الشيخ النائيني قد سبقته بمئة عامٍ تقريباً إلاّ أنها كانت أقرب إلى التنظير منها إلى الحياة العملية، وخصوصاً أن ظهورها كان محكوماً بحوادث داخلية واستعمارية مُحدّدة. إن خروج البعض من حينٍ إلى آخر بـ «صرعات» جديدة في ظل ظروف سياسية واقتصادية ودولية صعبة تعيشها الجمهورية الإسلامية سيعني أن ذلك لعب بالنار، ورميٌ بالأوراق في مُربّع الآخرين، من دون إدراك لحجم ما يحصل. كما أن الإشكال الأكثر غرابة هو أن البعض بات يُطالب بإلغاء النظام الإسلامي، أي بمعنى إسقاط الدولة على رؤوس الجميع، وهو تخريف سياسي صريح، والبعض الآخر يُطالب بحذف مبدأ ولاية الفقيه من المنظومة السياسية للنظام السياسي الإيراني، وكأن هذه النظرية مازالت حبيسة في بطن أحد الكتب الفقهية أو أنها قانونٌ قد سنّه البرلمان أو أنها مُتحققة بقرار وزاري!
إن أحداً لو نادى في أي دولة من دول العالم بتغيير النظام السياسي فيها فيا تُرى ما هو الموقف الذي سيكون منه؟ وما هو الإجراء الذي قد يصدر بحقه سواء في أوروبا أوالولايات المتحدة الأميركية. إن انتقاد السياسات الداخلية والخارجية للنظام يُمكن استيعابها ضمن مساحة الحريات العامة، أوتركها لطبيعة التوازنات القائمة في المجتمع والسلطة، إلاّ أن الحديث عن أصل الدولة وعن مشروعيتها هو أمر آخر لا تستطيع أن تتواءم معه أي من اللوائح والقوانين المُسَنَّة، لأنها إعلان حرب بصورة مُحسّنة لها دلالاتها التي قد تُعطي رسائل سلبية إلى الخارج المتربّص إذا ما جاءت في سياق حال الاحتراب والتصادم. ثم إن انتزاع الشرعية من أحد لا ينتظم بمِنَح مغلَّفة، لأن الشرعيات هي ليست هبات وقسائم تُوزّع، وخصوصاً إذا كانت شرعية ابتداء وتأسيس من حيث الالتزام بالإطار الفكري والعقدي، أو من خلال إسناد السلطة والولاية كنتيجة للبيعة والعقد.
إن أصالة النظام السياسي (كما يقول محمد جواد لاريجاني) والمتضمن قبول الناس بتفويض بعض حقوقهم إلى شخص أو أشخاص لحفظ الحال الطبيعية للحياة والسلم الأهلي والاجتماعي، لا يُمكن ألغاؤه بإمضاء من هذا العالِم أو ذاك، لأن الأمر قد يُصبح بهلوانيات سياسية لا يحتملها الواقع، ثم إن اختصار التجارب الكبرى في حوادث عَرَضية هو استهجان لتلك التجارب والجهود التي بُذِلت بشأنها
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1501 - الأحد 15 أكتوبر 2006م الموافق 22 رمضان 1427هـ