يحلو التجوال مع العظماء، فكيف إذا كان التجوال مع الفارس النبيل، الشهيد وأبي الشهداء علي (ع) في ذكرى رحيله؟ ومن حسن حظ الأجيال أن الزمان جاد علينا بكتاب موثق، ضم بين دفتيه روائع الحكم والوصايا والمواعظ والخطب البليغة التي تحفظها الآذان بمجرد سماعها لحلاوتها وطلاوتها، إضافة إلى الرسائل والوثائق السياسية والإدارية والحربية والقضائية المبهرة، حتى قال عنه أحد كبار المتكلمين، ابن ابي الحديد: “كلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق”.
اقرأ هذه القطع المصقولة بالذهب: “بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم ذروة العلياء، وُقر سمعٌ لم يفقه الواعية... اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان، عزب رأي امرئ تخلف عني. ما شككت في الحق مذ أُرِيتُه. لم يوجس موسى عليه السلام خيفةً على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال. اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل. من وثق بماء لم يظمأ”.
بلاغة تذوب مثل السلسبيل. وأفكار صافية رقراقة مثل الكوثر، توجيهاً كانت أوحماسة، عتابًا وتقريعًا أو تشجيعًا لتثبيت الجنود عند اللقاء. على أن من أعجب نواحي سيرته الزاكية، واحتلت جزءًا مهماً من سفره الخالد، “نهج البلاغة”، تلك التي تتناول مواقفه مع عماله، فالمعتاد أن تقوم العلاقة بين الحاكم وحاشيته وأتباعه على الولاء والممالأة، إلا أن عليًّا (ع) أقام علاقة قوامها الشك والحذر والاحتياط مع عماله والمقربين منه، لكي لا يستغل أحدهم منصبه في الإضرار بعامة المسلمين، وخصوصا أن المنصب يفتح الشهية للطامعين حين تبرق المطامع.
علاقة حكمها الشك والاحتياط، من هنا كان يرسل العيون ليراقبوا أداء عماله مع الناس، ليرى مقدار التزامهم بالخطوط العامة التي أوصاهم بها. فلما جاءته امرأة من بلد بعيد تشكو إليه تجاوزات عامله وسوء استغلاله للسلطة، وكان حينها يصلي، فلما فرغ واستوثق من شكواها، كتب لها كتابًا بعزله. ذهبت إليه شاكية من ظلم الوالي، وعادت إلى وطنها وهي تحمل كتاب عزله.
كان يرى أن العمل العام مسئولية وأمانة وليس جاهًا ووجاهة وتسلطًا على الناس، خاطب الأشعث بن قيس يوماً، وكان واليا على أذربيجان، حين شم منه رائحة المتعجرفين على عباد الله، بقوله: “وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة”، فالمنصب يغري ويغر.
وبلغه ان شريحًا القاضي اشترى دارًا بثمانين دينارًا، وكتب بذلك كتابًا وأشهد شهودًا، فاستدعاه ونظر إليه نظر المغضب ثم قال له: “يا شريح، أما انه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسألك عن بينتك، حتى يخرجك منها شاخصًا، ويسلمك إلى قبرك خالصًا، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة. أما وإنك لو أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابًا على هذه النسخة، فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم فما فوق”. (ثم كتب كتابًا مؤثرًا يذكره فيه بمصير الجبابرة والقياصرة والملوك من حمير وتبع).
قيم ومعايير اعتمدها علي(ع) في تنظيم حكومته، سرعان ما عطلتها قوى الجاهلية التي انبعثت تحت رداء الإسلام فحولته إلى ملك عضوض،
مازال العالم بعد أربعة عشر قرنًا، يرنو إليها بعين الآملين، ويمنّي النفس بعودتها يوماً إلى الحياة من جديد
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1501 - الأحد 15 أكتوبر 2006م الموافق 22 رمضان 1427هـ