العدد 1501 - الأحد 15 أكتوبر 2006م الموافق 22 رمضان 1427هـ

وسط بيروت... و«أمراء» الطوائف

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أكثر من مرة ألمح الجنرال ميشال عون في خطبه السياسية إلى احتمال حرق وسط بيروت. وتكرر هذا الكلام التحريضي في مناسبات وسياقات مختلفة قبل العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في 12 يوليو/ تموز الماضي وبعده. لماذا يريد الجنرال حرق وسط بيروت أوعلى الأقل لماذا يكن هذا الحقد المثير للعجب ضد عاصمة لبنان؟ القراءات بشأن هذه المسألة مختلفة الوجوه ويمكن رؤية زواياها من جهات متعددة، لكنها تقع كلها في إطار عام يعكس ذاك الخلل الذي تعاني منه الدولة اللبنانية المشدودة إلى أوتاد طائفية. فالطائفية في لبنان أقوى من الدولة والطائفة هي مركز الانتماء للمواطن بينما الدولة تشكل مظلة عامة لا جذور اجتماعية لها ضاربة في عمق التاريخ.

التاريخ في لبنان يبدأ من زمن الطوائف لا من تاريخ الدولة. فالدولة مجرد ملحق للأصل والأصل هو الطائفة وبعدها يأتي المكان أوالمناطق التي تحيط بالمدن. وبسبب التكوين الجغرافي الخاص بالبلد الصغير تشكلت المناطق تقليدياًّ من غالبيات مذهبية أسهمت في تلوين المدن بطابع طائفي.

حتى المدينة في لبنان طائفية اللون. فلكل مدينة طابعها المذهبي الغالب تعيش في وسطها مجموعة أحياء متنوعة الانتماءات جاءت من أرياف المناطق. هذا التكوين المناطقي للمدن لعب دوره في تشكيل غالبيات مدينية في مختلف المحافظات. وباتت الطائفة (أو المذهب) تعطي المدينة هويتها وترسم لونها الخاص في إطار «الجمهورية». مدينة بعلبك لها طابعها المحلي (الطائفي/ المذهبي) كذلك زحلة، صور، صيدا، طرابلس، جونيه، عاليه، بعقلين، البترون، جبيل، النبطية، جزين... إلى آخر الأسماء. وبسبب هذا الفرز الطائفي لألوان المدن تحول الانتماء إلى «مدينة ما» إشارة خفية إلى مذهب المواطن وطائفته أوسياسته.

هذا التكوين السيوسيولوجي لنشوء المدن المناطقية في لبنان أعطى نكهة مميزة لكل الحواضر إلا أنه أسهم في خلخلة الهوية الجامعة لمختلف الطوائف والمذاهب وساعد لاحقاً ابان اندلاع الحروب الأهلية والإقليمية في البلاد بدءاً من 1975 في تسهيل الفرز السكاني وانتقال الجماعات الأهلية من مكان إلى آخر خوفاً أو طلباً للأمان والراحة.

استمر هذا الفرز القسري إلى الآن ولم تنجح كل المفاوضات والمصالحات واللقاءات والاتفاقات والمهرجانات في إعادة الثقة وإقناع المواطنين النازحين بالعودة إلى مناطقهم. وحتى حين قررت «الدولة» بناء على توصيات «اتفاق الطائف» دفع تعويضات وتشجيع الناس على العودة إلى مناطقهم وإعادة إعمار منازلهم كانت الاستجابة محدودة الأمر الذي زاد من عزل المدن وانحصارها تحت سقف موحد مذهبياً وطائفيًّا. فمعظم مدن المناطق الآن لاتزال تتمتع بمواصفات اللون الواحد وتمتاز بخصائص معينة ليست بعيدة في عاداتها وتقاليدها عن المناخ الاجتماعي الذي يحيط بها في المنطقة أوالمحافظة.

بيروت/ المركز كانت الاستثناء تقريباً عن حالات التطييف التي اجتاحت أمواجها مختلف المدن المناطقية. فالمركز (الوسط) نجح في التحرك خارج هذه الدوائر المناطقية/ المذهبية وبات خلال فترة الهدوء السلمي محطة للقاء أو التقاء الروافد اللبنانية على مختلف مناطقها ومذاهبها وطوائفها. فالوسط كان نقطة تجمع ومصدراً للنشاط الثقافي والفكري والسياسي ولعقد المظاهرات المليونية لكل الاتجاهات والقوى المتضاربة في إطار هذه «الجمهورية» التعيسة والعاثرة الحظ.

فقط وسط بيروت وامتداداته الفرعية في المنطقتين «الشرقية المسيحية» و»الغربية المسلمة» استمر يقاوم ذاك الاستقطاب المذهبي/ الطائفي/ المناطقي الذي تعرضت له مختلف المدن اللبنانية. وشكلت هذه المقاومة نقطة ارتكاز لكثير من اللبنانيين للدعوة إلى إعادة تأسيس «جمهورية» متعددة الألوان ومتعايشة وتدفع باتجاه تطوير نموذج وسط بيروت ليتحول مع الأيام إلى شخصية مشتركة توحد كل الطوائف والمذاهب والمناطق في إطار «هوية جامعة».

هذه الدعوات لاقت دائماً معارضات مختلفة الألوان والأشكال والذرائع من «امراء» الطوائف و»جنرالات» الأحياء. فالوسط المديني في بيروت شكل لهؤلاء نقطة توتر ومخاوف على زعامات متوارثة وجدت في التوزيع الطائفي للمناطق والمدن مناسبة لممارسة نفوذها السياسي والضغط على المركز والتهويل بحرقه في حال لم تستجب «الدولة» لرغباتهم أو مشروعاتهم الخاصة. فالوسط برأي هؤلاء يعني الحد من دور الأطراف وربما يشكل نقطة دائرة تجذب الناس إلى مركز تختلط فيه المذاهب والطوائف والمناطق وتتشارك في رؤية تتفق على المصالح لا على أهواء «الملل والنحل».

هذا الانشداد بين دعوتين يكشف في الواقع آليات التوتر التي تعتمد عليها سياسات «امراء» الطوائف و»جنرالات» الأحياء. فهؤلاء يريدون تطييف بيروت أومنع انتقال «الوسط» إلى المناطق بل نقل قوانين المناطق إلى «الوسط» حتى تتلاشى «الجمهورية» وتضمحل رموزها في خضم أمواج الطوائف والمذاهب. وبيروت تشكل نقطة تجاذب في هذا المعنى. ووسط المدينة/ العاصمة يمثل جزيرة صغيرة تتكثف فيها المؤسسات الدالة على وجود «جمهورية» محاصرة لكنها طامحة إلى تركيز مواقعها ومنع كل هيمنة أحادية الجانب أواللون.

مدينة ملونة

حتى الآن لاتزال التهديدات مستمرة بالاجتياح أوالحرق أوالتفكيك. وكل يوم هناك من يهوِّل ويدفع بهذا الاتجاه لرغبات أودوافع مختلفة لكنها في النهاية تشترك على تعارضاتها في منطق واحد: الخوف من الاختلاط.

الخوف هذا أقرب إلى التخويف فهو مصطنع والقصد منه إرهاب الناس ومنعها من مغادرة «القلاع» و»الحصون» والذهاب إلى وسط مدينة مفتوح على ثقافات تفسح المجال للقراءة والتفكير خارج الزوايا الحادة والحلقات الضيقة. ولهذا تلجأ كل «قلعة» إلى رمي وسط العاصمة بوابل من التهويلات تتناسب مع طبيعة «الحصن» وتركيبه المناطقي والطوائفي والمذهبي. فكل «أمير» له حساباته الخاصة ولكل «جنرال» رؤى تحرك من داخله تلك الهواجس التي تتخوف من اللقاء على أرض متعددة الألوان والثقافات وتملك سلسلة تواريخ ممتدة في عمق الزمن. فهذا النوع من الزعماء يكره الألوان ويتحاشى رؤية مدينة ملونة.

ما تبقى من بيروت القديمة وهي مدينة يبلغ عمرها نحو أربعة آلاف سنة 250 مبنى فقط. والمباني التي نجت من الدمار والحرق والتحطيم المنهجي على مدار الوقت تؤشر على تنوع نادر في وسط العاصمة. فهناك بقايا قرى كنعانية/ فينيقية وهياكل رومانية (كلية الحقوق) وبيزنطية (كنائس) ومملوكية (جوامع) وعثمانية (السراي الكبير) وإيطالية وفرنسية (مرحلة الانتداب الأوروبي) وهي مراكز تجارية ومؤسسات رسمية (مبنى البلدية والأوبرا مثلاً) أقيمت على أنقاض مدينة لكنها في مجموعها تشكل تلك الذاكرة التي تلونت بالزمن وصمدت وتعايشت على رغم الزلازل والحروب والاجتياحات. هذا الوسط لا يريده حكام المناطق و»امراء» الطوائف و»جنرالات» الأحياء لأنه يشكل الوجه الآخر للقلاع والحصون والثكنات التي تميل إلى اللون الواحد وتكره التنوع والتعدد وتضغط دائماً للمزيد من التوتر لتعزيز آليات الاستنفار والاستقطاب.

أمس أطلقت مجموعة مجهولة قذائف حارقة على مبنى في وسط المدينة. وقبله أطلق «الجنرال» تهديدات بإشعال «السراي» وحرقه لأسباب غير لبنانية بالتأكيد. وهناك الكثير من القوى المتضررة من الوسط التي تشجع الناس على عدم الذهاب إلى هناك حتى لا تنهار العواصم المحلية (المناطقية) اقتصادياً في حال استمر مركز العاصمة في استقطاب الرواد من الروافد التي تتشكل منها هذه «الجمهورية» المسكينة.

وسط بيروت ليس مركزاً للتجارة ولا يختصر بكلمة أو باسم شركة (سوليدير) كما تذهب بعض أقلام «اليساريين» الغبية للكتابة عن تاريخ المدينة. الوسط هو تلك البقايا العمرانية التي استعادت هياكلها الحجرية للدلالة على زمن يمكن المراهنة عليه لتأسيس «هوية جامعة» لم تر النور حتى الآن. فهذا الوسط له تاريخ وشكل ذاك الملاذ الآمن لكل من أراد التعارف على ثقافة آخر قرر مغادرة «القلاع» و»الحصون» و»المزارع» و»الثكنات»، واللجوء إلى واحة تستقر فيها عناصر متعددة لكنها تملك الاستعداد لمشاركة المختلف في رؤية موحدة لجمهورية موعودة لم تولد بعدُ

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1501 - الأحد 15 أكتوبر 2006م الموافق 22 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً