تحدثت في المقال السابق عن الاعتدال وكونه فضيلة مرغوبة في كل قضايا الحياة والفكر، ولعل من أهم تلك القضايا موضوع العقل فهو يصبح هداما عندما يتضخم ويكون عامل تأخر وضياع عندما ينكمش ويتضاءل، ومن الغريب العجيب اننا مبتلون بالنقيضين فيما يرجع الى مكانة العقل في ثقافتنا فهي تعاني من تنامي الوثوق بالعقل في بعض المساحات و تضاؤله في مساحات أخرى
فخلال تاريخ طويل اعتقد الفلاسفة والمتكلمون أن بإمكانهم الإجابة على كل الأسئلة وأن براهينهم العقلية قادرة على تفكيك رموز الحقائق بلا استثناء وبالتالي فهم قادرون على إطلاق الدعاوى الجزمية التي ليس وراءها الا الضلال، وقد تسبب ذلك في تصلب الأديان والمذاهب وفقدانها لأسباب الطراوة والمرونة والانعطاف، فعندما يتضخم الوثوق بالعقل يفقد قدرته على المرونة ويكتسب طابعا تعصبيا وبالتالي يقع الإنسان في فخ الجدل العقيم، ولذلك فلعله يمكن القول ان الانتصار التاريخي للمنطق الأرسطي الجزمي على المنطق النقدي السفسطائي شكل بدايات الدخول الرسمي في عصور الكراهية العقدية وتشكل الهويات الإيمانية، وقد يتظاهر الكثير من الاستدلاليين بأنهم في صدد الوصول الى الحقيقة ولكنهم في واقع الحال إنما يجعلون ذلك قناعا لإرادة الغلبة وإثبات الهوية فهل رأيت أحدا من المشاركين في المناظرات المكتوبة أو المسموعة تنازل عن بعض دعواه واعترف لخصمه بالحق؟ ذلك لم يحصل ولن يحصل أبدا في سياق هذه المناظرات المبنية أساسا على الهوية وليس الحقيقة.
ولكن في المقابل نجد أنه يكاد يكون العقل غائبا في الكثير من مساحات الثقافة الغالبة (وأقصد بالعقل هنا كل فهم لا يعود الى الاستنطاق الدلالي للنص) فمن ذلك ما يعود الى تعاملنا مع القرآن الكريم حين اشتغلنا كثيرا بشئون القراءة الطقوسية عن إعمال عقولنا في فهمه ونلاحظ أن المبالغة في العناية بشكليات القراءة من شأنها أن تضعف فرص التفكير المتأمل في المضامين القرآنية فإنه «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوف واحد» (الاحزاب:4) وعندما تكون مسابقات حفظ القرآن وتجويده تفوق عشرات المرات مسابقات الأبحاث القرآنية فذلك يعني وجود حاجة جادة للموازنة بين الشكل والمضمون.
وكذلك نجد أن التفكير العقلاني في مجال السنة النبوية والمعصومية باهت جدا وبات البحث في تلك الأحاديث يكاد يقتصر على الشروح اللفظية وفي المرتبة القصوى الجمع بين مداليلها بتقييد أو تخصيص أو ترجيح أو تساقط، فلا يزال التفكير في تفكيك السنة النبوية لا يكاد يبين في الأبحاث التخصصية في مجال فهم الدين، نعم لاحظنا هنا كلاما رائدا لدى عدد من المنظرين الدينيين كالإمام المجدد الشيخ محمد شمس الدين في كتاب» تجديد الفكر الديني» اذ قرر هناك بأن النبي له مقامان مقام النبوة وتبليغ الدين ومقام الحكم والإدارة فهو بلحاظ المقام الأول يحكي الدين الثابت على طول الزمان وهو المعني بقوله حلال محمد حلال الى يوم القيامة ولكنه بلحاظ المقام الثاني أي الحكم والإدارة يشرع ويسن قوانين تنظيمية للواقع يراعي فيها الأوضاع الخاصة المناسبة لتلك القوانين.
والقانون في لغته ومضمونه لا محالة تابع للواقع الذي هو في صدد التعامل معه بكل خصوصياته الدخيلة وبعبارة ثانية ظرفه وسياقه التاريخي أي (الزمكان)، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أنه دعوة الى أرخنة الدين والانتهاء الى اعتباره شيئا منقضيا بل هو دعوة للتفكيك بين ما هو ديني متواصل في الزمان والمكان وبين ما هو تنظيمي إداري (تدبيري بحسب شمس الدين) والذي هو لا شك مرتهن بظرفه (ولو كانت تدبيرات النبي غير مراعى فيها ظروفها المزامنة لانتفى كون النبي حكيما ومسددا من قبل الله تعالى) ففي كلام النبي حلال وحرام وإلزامات عبادية ترتبط بحاجة الإنسان الأبدية ولكن في كلامه أيضا نظم إدارية يجب أن نحقق في شروطها التاريخية المنظورة فيها ثم ننظر في نسبتنا اليها، وليس هذا الذي نقوله بدعا من القول فإنه يمكن العثورعلى الكثير من النماذج الصريحة في كلام من قوله حجة فقد روى الحر العاملي في أبواب الذبح من كتاب الحج من وسائل الشيعة عن جميل بن دراج قال (سألت أبا عبد الله الصادق عن حبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام بمنى قال لا بأس بذلك اليوم، إن رسول الله إنما نهى عن ذلك أولا لأن الناس كانوا يومئذ مجهودين، فأما اليوم فلا بأس) فنلاحظ أن الإمام فسر كلام النبي بما يرجع الى ظرفه الذي صدر فيه، وإني لأعجب أن يكون هذا الكلام يثير غضب البعض أو استغرابه مع أنه واضح في منطلقه وشفاف في غايته إذ إن مقتضى حكمة القانون الإداري أن يراعي الواقع الموجود وإلا كان عشوائيا عبثيا، ولذلك فإني أعتقد بأنه لا يجب أن يستغرق الاستنباط الفقهي في دراسة النص بحسب قواعد الظهور اللفظي مفصولا عن التاريخ المقارن له فهو وعاؤه الذي تقولب فيه وتحددت أبعاده على مقاسه، ويمكننا هنا أن نمثل بعدة موارد منها نهي النبي عن بيع الغرر إذ استفيد منه حكم تعبدي مطلق وقد سراه بعض الفقهاء الى معاملات التأمين لأنه لا يعلم قدر ما يعود على المؤمن له من طرف المؤمن، ولكن قد يختلف الفهم بملاحظة سياق نهي النبي والذي هو تكرار تنازع بعض المتعاملين في بيع الثمر قبل أوانه حيث كان البائع يدعي فساد الثمر ليضيع على المشتري حقه (لاحظ مدونة الفقه المالكي وأدلته للدكتور الصادق عبد الرحمن الغرياني ج3 ص 286 طباعة مؤسسة الريان) فهو قد يكون نهيا حكومتيا عن المعاملة التي تنتهي بالتنازع والشقاق وعدم القدرة على التوصل الى حقوق الأطراف لعدم وجود آلية لتمحيص الحق لا أنه تشريع عام بعدم جواز الجهالة في المعاملة في كل حال، وعند الرجوع الى معاملة التأمين التي مثلنا بها نجد أنها وإن اشتملت على جهالة الا أنها ليست في معرض التنازع وضياع الحقوق وذلك لأن الطرفين يتفقان على ضوابط محددة المعالم ومعلومة النتائج.
ومن أمثلة ملاحظة السياق التاريخي (الزمكان) وإسقاط ذلك على النص الفتوى الشهيرة للإمام الخميني في حلية الشطرنج إذا خرج عن كونه آلة قمار عرفا مع ان النصوص الناهية عنه مطلقة وقد سبقه الى تلك الفتوى فقهاء معتبرون جدا كالسيد أحمد الخوانساري صاحب المدارك، وقد علل الإمام فتواه بأن النص وإن كان مطلقا إلا إنه صدر في ظرف كان الشطرنج فيه آلة قمار عرفا ونحن وإن لم نتمكن من القطع بأن النص المذكور مقيد بظرفه فلا أقل أننا نحتمل ذلك، ولا يجب على صاحب النص أن يبين تقيد نصه بالواقع مادامت توجد قرينة سياقية عامة وهي كونه في صدد معالجة الوضع الخاص المقارن للنص، وأما قضية أن خصوص المورد لا يقيد الوارد فهي فيما إذا لم نحتمل دخالة خصوصية المورد في الوارد وحيث إن النصوص في هذه القضية ليست على مستوى واحد فذلك يؤكد أهمية التفكيك بين النصوص الدستورية المطلقة وبين النصوص القانونية التي هي أصلا متقيدة عقلا وعرفا بظرف صدورها فلا تسري الا الى الظرف المتطابق معها في كل الخصوصيات المحتملة الدخالة، وهذا الذي قلناه يبدو واضحا جدا في التطبيقات الميدانية للمبادئ العامة فالمبادئ ذاتها لها ثبات وسراية الى كل الحالات ولكن تطبيقاتها التنظيمية للواقع ليست كذلك أبدا فكان مقتضى العدل مثلا أن يوزع الإمام علي كل ما في بيت المال ثم يكنسه كدلالة على انه لم يتبق فيه شيء أبدا، ولكن هل يحسن مطالبة الدولة الحديثة بأن توزع الخزانة العامة على الشعب كدلالة على العدل؟ بالطبع لا، إذ إن الفرق بين وظائف دولة النبي والخلفاء الراشدين من بعده وبين الدولة الحديثة كبير جدا، فالدولة الحديثة ليست دولة نظام سياسي وأمني فحسب بل تتحمل تجاه الشعب أعباء خدماتية معقدة وواسعة وترتبط بنظام اقتصادي عالمي ما يجعل التوزيع المجاني للخزانة يساوي سقوط الدولة وانهيار مؤسساتها.
وبالإمكان أن نجد في أبواب السياسة والمعاملات الكثير من الأمثلة على هذا التفكيك المهم والضروري جدا فهو شيء يؤثر تأثيرا بالغا في حيوية الفقه وتجاوبه مع متغيرات الزمكان، والضابطة حينئذ هي ارتباط الحكم بالمبدأ أو التطبيق فالذي يرتبط بالمبدأ يكون تشريعا وما يرتبط بالتطبيق يكون تدبيرا، ولعل من أمثلة هذا التفكيك القول المشهورعن النبي (من أحيا أرضا فهي له) فيمكن القول إنه بذلك لا يشرع حلالا وحراما له سراية في كل زمان ومكان بل يضع قانونا تدبيريا ولايتيا لاحظ فيه أوضاع الأرض والإنسان والتي قد طرأ عليها التغير فعلا حيث تبدلت التركيبة الديموغرافية للمجتمعات البشرية وتضاءلت المنابع الطبيعية بالنسبة الى عدد السكان والأهم من كل ذلك هو اختراع الآلة التي مكنت أصحاب رؤوس الأموال القادرين على اقتنائها من إحياء البلاد كلها خلال فترة قياسية ثم إلقاء الفقراء في البحر بل ابتلاع البحر أيضا وإلقاء الفقراء في المزابل‡
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1498 - الخميس 12 أكتوبر 2006م الموافق 19 رمضان 1427هـ