العدد 1498 - الخميس 12 أكتوبر 2006م الموافق 19 رمضان 1427هـ

نقاط التشابه والاختلاف بين هيغل وصاعد

تطور المعرفة وصلتها بالجغرافيا وتاريخ الشعوب (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يقوم التاريخ عند هيغل على فكرة فلسفية هي قراءة تتابع مجرى تطور الروح وصولاً إلى الحرية. ويبدأ التطور من التكوين الأول حين أخذت فكرة الحرية تكتشف ذاتها من خلال وعي الخارج أي حين حاولت التعرف على محيطها والعناصر التي تتشكل منها.

بعدها حصل الانتقال التاريخي من الذات إلى الموضوع وتداخلت العوامل في تلك الفترة ببعضها ونهضت ثنائيات تزاوج بين الطبيعة والإنسان أو بين عالم الإنسان وعالم الحيوان.

إلا أن التزاوج لم يتطور في الشرق إلى وحدة مطلقة لأن العالم الشرقي برأي هيغل فشل في توحيد المتناقضات وتصورها في تجريد عقلي يتجاوز الطبيعة أو عالم الحيوان. وبانتقال التطور من الشرق إلى الغرب سارت فكرة الحرية باستقلال عن الطبيعة والحيوان وأخذت تستقل ذاتيا حتى توصلت إلى اكتشاف ذاتها لذاتها.

الحرية في الغرب لم تعد تجد نفسها في الخارج (الموضوع) بل اكتشفت نفسها في الداخل (الذات) فأخذت تتحرك لذاتها. فالنور في الغرب هو في داخل الإنسان وأعماقه النفسية (الفكرة المطلقة) بينما يقع، كما يرى هيغل، في الشرق خارج الإنسان (الشمس) وفي محيطه. وعلى أساس هذا التصور الفلسفي يقرأ هيغل تطور وعي الحرية من صلة الدين بالدولة وتأثيرهما المتبادل على المستويات العقلية والعلمية والإدارية والخلقية والسلوكية.

انطلاقاً من هذه القاعدة وضع هيغل سلسلة تعريفات مغلقة نظر من خلالها كثوابت لا تاريخية في الحكم على حضارات الشعوب ومستوى تقدم كل شعب وتطور كل حضارة. فهو يحاكم حضارات قديمة بمنظور حديث. وبسبب نظرته تلك وقع في توصيفات عنصرية استعلائية واسقاطات أوروبية على شعوب غير أوروبية. وبما أن أوروبا برأيه هي الأعلى فكل الشعوب هي أدنى قياساً إلى منطقه الفلسفي الجدلي.

هيغل على رغم تاريخيته وقع في توصيفات متحجرة كانت نتاج تحديدات مفهومية التزم بها في مطلع بحثه وحاول من منطقها النظري ادراج كل الشعوب في سياق زمني للتطور يصل في النهاية إلى مقولاته الخاصة ومفهومه المحدد لمعنى الدولة والدين والحرية. فالدولة عنده هي «تحقق فعلي للروح، يتمثل في أن يتحقق للروح الوجود الواعي لذاته أي تتحقق حرية الإرادة بالفعل بوصفها قانوناً» (الجزء الثاني ص 127). وهذا يفترض برأيه «الوعي بالإرادة الحرة». فالأساس الحقيقي للدولة عنده هو مبدأ الحرية. كذلك يرى أن الحرية هي «إرادة مجردة بذاتها» و«حرية ذاتية» في آن. وهي وفق منهجه غير موجودة إلا عند الشعوب الأوروبية في الغرب، بينما «الصين وفارس وتركيا وآسيا عموماً هي مسرح للاستبداد والطغيان بمعناه السيئ» (الجزء الثاني ص 128). فأهل الصين برأيه لا يعرفون ذاتية الكرامة، ولا استقلال عندهم للفرد، ولا توجد تفرقة عندهم بين الحرية والعبودية فكلهم سواسية أمام الامبراطور لذلك اتصف الصينيون بالخداع والغش والنصب وسيادة الخرافة وتقديس السحر. ويطلق هيغل على أهل الهند الصفات نفسها مع تمييز في أنظمتهم السياسية عن الصين.

في الصين هناك دولة سادت المساواة بين كل الأفراد، فالحكومة مستغرقة في مركز واحد هو الامبراطور والاختلافات لا تبلغ مستوى الوجود المستقل. وفي الهند هناك شعب وليس دولة وتسوده تمييزات متحجرة وثابتة في «طبقات مقفلة» تقوم على وظائف كلية إلى تنوع في الأعمال والمهن. فلكل طائفة وظيفتها ولكل طبقة مهنتها ولا يجوز الاختلاط بين الطبقات والطوائف. والانتماء للطبقة يأتي من طريق الولادة ويمنع على الطوائف الاتحاد أو الاختلاط من طريق الزواج. وفي حال وقوع الأمر يطرد المخالف من طبقته وهو ما أدى إلى ظهور طبقة منبوذين (المطرودون من طبقاتهم). وبسبب اختلاط الروح بالواقع والوعي بالحس، بحسب نظرية هيغل، يرى في أهل الهند انعدام خاصية الإنسان والواجب البشري والشعور إذ لا توجد عندهم الأخلاق التي تتضمن احترام الحياة البشرية، فأخلاقهم أخلاق المكر والخداع. والفارق بين الهند وغيرها من شعوب الصين وفارس وتركيا وآسيا عموماً أن أهل الهند يتقبلون الطغيان والاستبداد فهو عندهم «شيء عادي لأنه لا يوجد هنا (في الهند) أي احساس ذاتي بالاستقلال الشخصي يمكن أن يقارن بينه وبين الاستبداد، الذي من شأنه أن يثير في النفس تمرداً»، بينما الطغيان في بقية الشعوب الآسيوية يثير «امتعاض الناس» فهم يمقتونه ويئنون تحته بوصفه عبئاً «فهو بالنسبة إليهم ليس ضرورة لكنه صدفة عارضة وشذوذ، وينبغي ألا يكون» (الجزء الثاني ص 128). برأي هيغل جاءت نزعة الاستسلام عند الهنود من نقص وعيهم التاريخي وهو أمر عرض بلادهم للفتح الخارجي. فمعلوماتهم التاريخية ناقصة وعشوائية ولديهم قوائم بالملوك متناقضة وخرافية ولا تشكل تاريخاً. ويتهم هيغل الهنود بالكذب. فهم يكذبون عن تاريخهم «عن علم وعن عمد» (الجزء الثاني ص 132).

يرى هيغل أن المصادر الأولى عن التاريخ الهندي التي تعتبر أقدم وأوثق المصادر هي تلك الملاحظات التي سجلها المؤرخون اليونانيون في فترة فتوحات الاسكندر في طريقه للهند، أو الكتابات التي سجلها المسلمون عن تاريخ الهند بعد فتحها في القرن العاشر الميلادي في عهد الدولة الغزنوية المسلمة (محمود الغزنوي). فهيغل يريد من خلال التحليل المذكور اثبات نظريته عن «تطور الروح» من الشرق (الصين) إلى الغرب. والهند تقع بعد الصين فجعل أول الشرق هو البدء ويمثل الدولة المركزية والوحدة والفهم الواقعي والرعاية الأبوية للامبراطور وتقديس السيد وتنظيم المعلومات التاريخية. وجعل من الهند الخطوة الثانية في بداية التاريخ وتمثل الشعب والتفكك والخيال الجامح وتقديس الخرافة والاختلاف والتنوع والانقسام على كل شيء في تنظيمات طائفية وطبقية لا واعية لتاريخها. فالهند هي الخطوة الأولى في انقسام الوحدة.

وبسبب من ذاك الانقسام اتجهت الهند نحو التطور الروحي. ويشكل الطور البوذي في تطور الروح الهندية خطوة مركزة أكثر في ذاتها لأن البوذية وهي أوسع المعتقدات انتشاراً في العالم «أكثر بساطة ووضعها السياسي المصاحب أكثر هدوءاً وأكثر استقراراً» (الجزء الثاني ص 138). فالبوذية برأي هيغل هي الارتفاع فوق تناهي الطبيعة والوجود وعودة الوعي إلى الباطن وهي تشمل شعوباً وبلداناً من طبيعة متباينة من سيلان والهند وبورما وسيام في شمال التبت ومرتفعات الصين من مغول وتتار. فبوذا يعبد في الصين باسم فو، وفي سيلان باسم غواتاما، وفي التبت باسم اللام. وهناك ثلاثة أنواع من اللامات. واللامية هي صورة معدلة من البوذية التي هي أساساً تجمع بين الصورة السلبية (العدم بصفته الوحدة المجردة أو السكون الأبدي) والصورة الايجابية (الروح المطلقة) حين يتصور الله بوصفه موضوعاً وليس في صورة الفكر (الجزء الثاني ص 140).

إفريقيا أرض الأصالة

قبل أن يتحدث هيغل عن الصين والهند تطرق إلى إفريقيا وقسمها إلى ثلاثة أقسام: الأول «يقع جنوبي الصحراء الكبرى، وهي إفريقيا على الأصالة». والثاني «يقع شمالي الصحراء وهو إفريقيا الأوروبية». ويقصد به بلاد المغرب وهو أرض ساحلية. والقسم الثالث هو «منطقة نهر النيل، وهي أرض الوادي الوحيدة، وهي تتصل بآسيا» (ص 172).

يتحدث هيغل بقرف واشمئزاز عن القسم الأول من إفريقيا (الاصالة) فهذا الجزء «غير صالح للسكن إلا في بقاع ضئيلة معزولة» (ص 172). فالإنسان هناك يعيش على الطبيعة ومتجانس مع تخلفه. و«الرجل الزنجي» بزعم هيغل «يمثل الإنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير المروضة تماماً» (174). وبسبب حاله الطبيعية تلك يحتقر «الزنجي» العدالة والاخلاق وتنحط عنده قيمة الإنسان و«ينظر إلى أكل لحوم البشر على أنه مسألة عادية ومسموح بها». وبزعم هيغل أن التهام اللحم البشري «يتفق تماماً مع المبادئ العامة للجنس الإفريقي» لأن اللحم البشري «ليس موضوعاً للحس، بل مجرد لحم فحسب» (178).

إلى عادة أكل لحوم البشر يكتشف هيغل خاصية أخرى في «الزنجي» وهي الرق. فالرق برأيه هو مرحلة أرقى من التوحش وبما أن «المشاعر الاخلاقية عند الزنوج ضعيفة للغاية أو هي معدومة إن شئنا الدقة»، يصبح الرق فرصة للتقدم والخطوة الأولى نحو الحرية لأن سمة الزنجية «ليست هي ازدراء الموت، بقدر ما هي الافتقار إلى احترام الحياة» (ص 178).

إضافة إلى نزعته العنصرية (التفوق الأوروبي) لا يتردد هيغل في إعلان تأييده للرقيق. فاسترقاق الإفريقي واستعباده هي خطوة تاريخية نحو حريته، لذلك يعترض على اجراءات بعض الدول الأوروبية للحد من الرقيق وبرأيه «أن الالغاء التدريجي للرق أحكم وأعدل من ازالته فجأة» (ص 182). وعلى هذا الأساس يفسر سبب انتشار الإسلام في إفريقيا. فالعقيدة الإسلامية برأيه «كانت العامل الوحيد الذي ادخل الزنوج في نطاق الحضارة. ولقد فهم المسلمون أيضاً، أفضل من الأوروبيين، كيف ينفذون إلى داخل هذه البلاد» (ص 175). يختلف موقف هيغل من القسم الثاني من القارة ويسميه «الجزء الشمالي من إفريقيا» الذي يقع على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي ويصفه بالاقليم الرائع وفيه استقر «القرطاجيون والرومان والبيزنطيون والمسلمون والعرب، تباعاً، كما ناضلت المصالح الأوروبية لكي تجد على هذه الأرض موطئاً لأقدامها» (ص 173). وبسبب جمال هذا الجزء من القارة وخصوبته وقربه من أوروبا يعلن تأييده للاستعمار، إذ «بذل الفرنسيون أخيراً جهوداً ناجحة في هذا الاتجاه». ويرى أن من الواجب «ربط هذا الجزء من إفريقيا بأوروبا، ولابد بالفعل أن يرتبط بها» (ص 173).

إجمالاً، تحدث هيغل عن إفريقيا باحتقار وعنصرية معتمداً في رواياته على أخبار صحافية وكتابات الرحالة وتقارير حركات المبشرين، فأيد الرق والاستعباد في القسم الجنوبي وشجع الاستعمار في القسم الشمالي لكونهما أفضل الحلول الإنسانية لجماعات همجية ومتوحشة، بينما وضع القسم الثالث (منطقة نهر النيل) في دائرة آسيا. فالنيل لا ينتمي إلى «الروح الإفريقية» فتركه إلى فترة لاحقة، لأنه يشكل «انتقال الروح البشرية من مرحلته الشرقية إلى مرحلته الغربية» (ص 183). فإفريقيا قياساً بفلسفة هيغل وتاريخ التطور البشري عنده هي «الروح غير المتطورة التي لا تاريخ لها» لذلك تحدث عن إفريقيا أولاً بصفتها خطوة تمهيدية ولن يذكرها مرة أخرى لكونها «ليست جزءاً من تاريخ العالم، ولا تكشف عن حركة أو تطور» (ص 182).

بهذا التوصيف ينتقل إلى موضوعه الأصلي وهو تطور الروح على المسرح التاريخي ودور الأمم في صنع الأفكار. ويبدأ، كما جاء في الحلقة الأولى، من الصين والهند وينتقل منهما إلى طور أرقى من التقدم التاريخي يتمثل برأيه في فارس وحضاراتها، ثم مصر واليونان وانتهاء بالجرمان (ألمانيا).

توصيف صاعد

الفارق بين صاعد وهيغل أن الأخير لجأ إلى التحليل المنهجي ليؤكد التفوق الأوروبي (مركز العالم) وتخلف العالم غير الأوروبي على درجات تبدأ من الأعلى القريب إلى الادنى البعيد. بينما الأول مال إلى التعريف. فهو يصف الخصائص ولا يستنتج قواعد ثابتة للشخصية التاريخية. فالتاريخ يتغير لذلك فإن الشخصية تدخل عليها التعديلات. لهذا لم ينزلق صاعد في تحديدات نهائية خوفاً من السقوط في تعريفات ليست دقيقة.

هذا الحذر لم يمنع صاعد من تقديم توصيفات للشعوب. الصين أكثر «الأمم عدداً» وشعبها من «أصبر الناس على مطاولة التعب وتجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع». الترك أمة «كثيرة العدد أيضاً» وفضيلتهم «معاناة الحروب ومعالجة آلاتها» وهم احذق الناس «بالفروسية والثقافة». الهند أمة كثيرة العدد واعترف لها «بالحكمة واقر لها بالتدبير في فنون المعرفة». الفرس أهل «العز الشامخ والشرف الباذخ» وكانت لهم «ملوك تجمعهم ورؤوس تحامي عنهم» ولهم عناية «بصناعة الطب». أما أمة الكلدان فهي «قديمة الرئاسة نبيهة الملوك» وكان منهم علماء وحكماء وفضلاء يتوسعون «في فنون المعارف». اليونان كانت «أمة عظيمة القدر» ولغة اليونان «من أوسع اللغات وأجلها»، وكان علماؤهم يسمون «فلاسفة» وتعني «محب الحكمة» وابرزهم فيثاغورس وسقراط وافلاطون وارسطو. والأخير كان «معلماً للاسكندر». وهؤلاء «الخمسة هم سادة الحكماء».

أما الروم (روما) فكانت «مدينة رومية العظمى». وكان للروم «حكماء جلة علماء بأنواع الفلسفة». مصر كانت «أهل ملك عظيم وعز قديم في الدهور الخالية والازمان السالفة». وكان لقدماء أهل مصر «عناية بأنواع العلوم وبحث في غوامض الحكم».

أما العرب «فهي فرقتان» بائدة وباقية. أما الباقية فهي منوعة من جدين قحطان وعدنان. أما علمها فـ «لسانها واحكام لغتها ونظم الاشعار وتأليف الخطب» إلى أن جاء الإسلام «فهدوا البلاد وغلبوا الملوك واحتووا على الممالك». أما الاندلس «بعد تغلب بني أمية عليها» فجماعة عنيت «بطلب الفلسفة» وكانت قبل ذلك «خالية من العلم». اليهود (بنو إسرائيل) فلم يشتهروا «بعلوم الفلسفة» وانما كانت «عنايتهم بعلوم الشرائع وسير الأنبياء». والعلماء بشريعة اليهود «فأكثر من أن يحصوا في مشارق الأرض ومغاربها».

هذا التوصيف الذي اعتمده صاعد اختلف عن التحليل الذي لجأ اليه هيفل. فصاعد تكلم عن تواصل المعارف وانتقالها وتوسعها وتخصص كل أمة في حقل من حقولها فهو كما يقول في نهاية كتابه أنه اراد فقط «تسمية علماء الأمم والتعريف بنبذ من تواليفهم وأخبارهم»... بينما هيغل تحدث عن التطور من الادنى (الشرق) إلى الأعلى (الغرب) ليؤكد أن نهاية التاريخ وصلت إلى ذروتها وهو العصر الذي كان يعيش فيه الفيلسوف الالماني. وبين تواضع الأول وتشاوف الثاني يمكن قراءة الكثير من التفصيلات التي لاتزال سارية إلى ايامنا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1498 - الخميس 12 أكتوبر 2006م الموافق 19 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً