العدد 1497 - الأربعاء 11 أكتوبر 2006م الموافق 18 رمضان 1427هـ

الهندي الأحمر... والتشبث بشجرة الزيتون

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

يؤدي الهنود الحمر الذين تعامل معهم المستعمر الأبيض باعتبارهم عالة على الجنس البشري في الأرض الجديدة، طقوساً دينية فحواها الاعتذار إلى الشجرة حين تضطر جماعة منهم إلى قطعها لأكثر من سبب، في سلوك متحضّر في احترام البيئة. اليوم بات قطع الرؤوس ضرباً من الألعاب الإلكترونية التي يتحلّق حولها مئات الآلاف من الأطفال في العالم.

جائزة (بايو) للعام الجاري، كانت من نصيب المصوّر الصحافي جعفر اشتية، لامرأة فلسطينية تحتضن جذع شجرة هي ما تبقى من حقل زيتون جرفته قوات الاحتلال الصهيوني في قرية سالم قرب مدينة نابلس. هي نفسها القوات التابعة لدولة تصنّفها الولايات المتحدة الأميركية دولة أولى في الديمقراطية في الشرق الأوسط. بنفس الدم البارد الذي يعمد إلى حقل زيتون فيجرفه (الشجرة المذكورة تثمر بعد 4- 5 سنوات وتستمر في إعطاء ثمرها لأكثر من ألفي عام، وهي بالمناسبة أ ول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان)، تعمد قوات دولة الإحتلال نفسها إلى اجتثاث إنسان الأرض الفلسطينية بالدم البارد نفسه. عن أية ديمقراطية تتحدث أميركا؟

اذا هان إنسان على أية قوة، فسيهون عليها ما عداه من مخلوقات. أليس من السذاجة والحمق، الحديث عن احترام البيئة وطقوسها في دولة تقوم على القتل اليومي والتهجير وتجريب ترسانتها على البشر العزّل؟.

ذهنية وعقلية كتلك تحيلنا إلى الجرعة الانسانية المفقودة في ثقافة القوة والهيمنة والإلغاء. اذ لا جرعة يمكن التعويل عليها أو حتى توهمها. المأساة أن الدولة الباطشة الأولى في العالم افتقدت بوعي كبير وحاضر كل تلك الجرعة من الإنسانية في تحوّل بوليسي واستخباراتي وترصدي لكل همسة ونجوى في هذا العالم، بُعيْد اختراق غفلتها وسكْرتها بالجبروت واستواء القوة لديها، تلك الكفيلة بتدمير هذا العالم لمئات المرات، عدْوَاً عليه في ممارسة هي في الصميم من أخلاقها واستهتارها.

***

الطقوس نفسها التي يعْمد إليها الهندي الأحمر في صلوات مركّزة واعتذارات يبدو أنْ لا نهاية لها حتى بعد فعل اجتثاث شجرة، تعمد امرأة فلسطينية مسنّة إلى احتضان جذع شجرة زيتون كاحتضانها لعائد من أبنائها بعد سجن أو سفر طويل، أو كاحتضانها لابنها الذي قضى في لحظة غدر مستشرٍ. صورة ومشهد يضع هذا العالم - كل العالم - أمام مسئولياته التي تبرّأ وتخلّى عنها. صورة تعيد هذا العالم إلى بدائية أخلاقياته بهذه القدرة على الصمت إزاء تجاوزات دولة مُصنّفة ضمن الدول الطاعنة في عضوية النادي الديمقراطي، فيما هي في الذروة من القهر وموهبة اجتراح طرق مبتكرة في حرق الحرث والنسل.

***

اجتثاث حقل من الزيتون، في العميق من توهم اجتثاث 5 سنوات من عمر امرأة في الهزيع الأخير من حضورها على هذا الكوكب، وفي العميق من توهم اجتثاث 5 سنوات أخرى من عمر شعب ظل - ولا يزال - متشبثاً بالتراب والسيرة والتاريخ والحاضر من المشاكسة في الممارسة والحضور. وتوهم القدرة على اجتثاث قرون من الامتداد والمواجهة والتصدي لكل أشكال النسف والإلغاء والتزوير، ومحاولة يائسة لتكريس صورة الكائن الذي هبط على أرض لم يتمكن من ترويضها وإخضاعها لصالح الجنس البشري، فيما الصهيوني المستجلب من الجهات الأربع استطاع أن يقيم على ترابها مفاعلات نووية، ومصانع لا تعد ولا تحصى من آلة الدمار والموت.

***

أن تتشبث بجذع شجرة زيتون، ذلك يعني تشبثك بأحلامك وذاكرتك وأملك. يعني تشبثك بالمستحيل/ الممكن في ظل دولة تحيل ممكنك إلى مستحيل، ومستحيلك إلى كابوس وخرافة.

***

يضعنا تشبث تلك المرأة بجذع شجرة الزيتون أمام مواجهة واستحقاق التمييز بين الهمجي والإنساني... بين المقيم والماكث والمنتمي إلى الأرض ... والطارئ عليها. يضعنا أمام صدقية تصنيف التعاطي الراهن الذي يقذف بالمتحضّر والإنساني في خانة الهمجي والمؤقت ليحتل مكانه في الأصيل والمقيم والأبدي.

القسمة الضيزى في السياسة الأميركية/الصهيونية الراهنة، لا تضاهيها أي قسمة أخرى من حيث تجاوزها للحس والإدراك والفطرة والإنسانية، ما يضعها في خانة الرجعي والمتخلف ومصدر خطر أكيد على المنجز البشري.

***

تتلاعب بوعينا الأسطورة أحياناً، وأحياناً تعيدنا إلى رشدنا. لكن في نهاية المطاف، لن تستنزف منا الأسطورة حضورنا وذاكرتنا إذا ما ذهبت باتجاه النقي والناصع من تمرير قيمة أخلاقية وحتى عاطفية - على أقل تقدير - لأننا نشكو من عطب عاطفي، ما يجعلنا معرّضين إلى أكثر من عطب أخلاقي

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 1497 - الأربعاء 11 أكتوبر 2006م الموافق 18 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً