حين تتطابق الأقوال مع الأفعال، تزداد في يقيننا الشكوك المثارة، بشأن السياسة الأميركية الجديدة، الرامية إلى إعادة ترتيب الأوضاع المضطربة في المنطقة العربية، وفق أجندتها الخاصة.
وعلى رغم النفي والانكار، الصادر من أكثر من دولة عربية، شاركت في اجتماع وزراء خارجية الدول الثماني مع كوندوليزا رايس في القاهرة الأسبوع الماضي، وعلى رغم »المرافعة البليغة« التي قدمتها وزيرة الخارجية الأميركية، على صفحات صحيفة »الأهرام« يوم الخميس الماضي 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2006، توضيحاً لسياسة بلادها ودفاعاً عن أهدافها وتبريراً لأفعالها، فإن الواقع المعاش يشهد بأن واشنطن تسعى بكل جهد لإقامة ومساندة ما اسمته محور الاعتدال في مواجهة محور التطرف، شاقة بذلك الصف العربي بكل وضوح!
وهنا نستطيع أن نرصد أربعة محددات، أولها أن المسئولين الأميركيين وفي مقدمتهم الرئيس بوش ووزيرة خارجيته، لم يخفوا أو يداروا العمل على دعم محور الاعتدال في الشرق الأوسط، ومن يراجع الصحف الأميركية، وخصوصاً »نيويورك تايمز« و«واشنطن بوست« في الفترة من 25 إلى 29 سبتمبر/ أيلول الماضي، سيجد الالحاح على هذا المحور، على لسان كبار المسئولين المذكورين، وصولا للتلميح باحتمال قيام الرئيس بوش نفسه بزيارة للمنطقة قريباً لدعم محور أو تحالف المعتدلين في مواجهة المتطرفين!
وثانياً: تزخر وسائل الإعلام العالمية ومواقع الانترنت المهتمة، بأنباء عقد اجتماع أمني على مستوى عال في إحدى الدول العربية برعاية زعيمها، وحضور ممثلين مرموقين لأميركا و«إسرائيل« ودول عربية لها علاقة بما يسمى محور الاعتدال، »وكانت أميركا تريد عقد هذا الاجتماع على مستوى الزعماء« وفي كل الأحوال فقد جرت فيه مناقشة إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، بعد الآثار النافذة للحرب الإسرائيلية على لبنان، وصمود المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، واتساع التأييد الشعبي لها في البلاد العربية.
وثالثاً: تلا هذا الاجتماع الأمني اجتماع سياسي على مستوى وزراء الخارجية، عقد في نيويورك خلال انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة، حضره وزراء خارجية ما يسمى محور الاعتدال بدوله العربية الثماني ووزيرة الخارجية الأميركية، وكان الهدف هو ذات الهدف.
رابعاً: اجتماع مجموعة الوزراء التسعة نفسها المعروفة الآن باسم »6+2+1« بالقاهرة في الأسبوع الماضي، ليؤكد أو يطور ما صار يعرف بمحور الاعتدال، والذي تريد منه واشنطن القيام بدور رئيسي في إعادة رص الصفوف ووضع ترتيبات جديدة في المنطقة العربية، تصب في النهاية في مواجهة محور التطرف، كما تراه أميركا و«إسرائيل«.
والخطورة في هذا الاتجاه، تكمن في إعادة تقسيم العرب إلى محاور متعادية أو متخاصمة متصادمة، وبعث روح الاستقطاب بقوة، كما كان الحال في الماضي، حين انقسم العرب إلى محور المحافظين في مواجهة محور الثوريين، ومحور أصدقاء الغرب في مواجهة محور حلفاء الاتحاد السوفياتي، ومحور الأثرياء، في مواجهة محور الفقراء، ومحور الدول الرئيسية في مواجهة الدول الهامشية... وكلها تقسيمات ومحاور لم تسفر إلا عن فشل جماعي، واجهاض صريح للعمل العربي المشترك، وإصابة الجامعة العربية بالشلل والضعف بل والعمل على تصفيتها رمزاً ومكانة.
الآن، تسعى أميركا وتابعتها »إسرائيل« إلى بعث سياسة المحاور المتصادمة، لاستغلالها في دعم جوهر تحركها الراهن، الهادف إلى إعادة ترتيب الأوضاع السياسية والعسكرية، في منطقة مضطربة، تورطت فيها قواتها المسلحة في حرب مفتوحة كما هو الحال في العراق، واندفعت »إسرائيل« حليفتها الاستراتيجية، في شن حرب عدوانية تدميرية رهيبة ضد لبنان، وفي الحربين كانت الدولتان تبغيان سرعة الانتهاء و«القضاء على العدو« بسرعة شديدة وباستخدام أحدث الأسلحة وأقوى النيران... لكن الرياح جرت بما لا تشتهي هذه السفن.
استمرار المعارك الطاحنة في العراق وتزايد الخسائر الأميركية من دون انتصار حاسم على أشباح مقاومة تضرب وتهرب من ناحية، وفشل الحرب الإسرائيلية الوحشية ضد لبنان في القضاء على حزب الله وإخضاع الإرادة اللبنانية من ناحية أخرى، كشف عن افتضاح كثير من الاساطير، وخصوصاً اسطورة القبضة الحديد الأميركية للقوة الأعظم في عالم اليوم، واسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم... في الحالين جرى تمريغ الهيبة والغطرسة في الوحل، وارتدت الآثار العكسية والسلبية على الداخل، خصوصاً تردي التأييد الشعبي لبوش الأميركي وأولمرت الإسرائيلي.
وبالمقابل، ارتفعت قامة »المقاومة الوطنية« ضد المحتل الأجنبي سواء في العراق أو في لبنان، امتداداً لفلسطين التي لا تهدأ أو تستسلم، فاكتسبت شعبية هائلة في الشارع العربي، أحرجت النظم الحاكمة التي تصنف في قائمة محور الاعتدال، ودعمت مواقف النظم الأخرى، التي تصنف في قائمة محور المتطرفين والتطرف، ومع دخول الملف النووي الإيراني على الخط في هذه الظروف المتغيرة، لم يكن في إمكان السياسة الأميركية أن تقف مستسلمة لهذه المتغيرات المفاجئة، فنشطت في الترويج للشرق الأوسط الجديد، القائم على أكتاف محور الاعتدال ضد محور التطرف، الأول يضم الدول الثماني التي اجتمعت مع رايس في نيويورك ثم في القاهرة، أساساً، وتحاول واشنطن إدماج »إسرائيل« في هذا المحور من باب خفي، وبحجة تدعيم عملية التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي.
أما محور التطرف فقد صنفته واشنطن على أنه يضم سورية وإيران وحزب الله اللبناني وحماس والجهاد الفلسطينيين، إضافة إلى الأوضاع المتدهورة في السودان والصومال، ويبقى محور المحايدين، ويضم دول شمال إفريقيا والمغرب العربي، ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وهي دول تدخل في نطاق الاحتواء الأطلسي، الهادف إلى فصلها عن مشكلات عرب المشرق، وإدماجها تدريجياً في المدار الأوروبي الأميركي، بعد تهذيبها وإعادة تأهيلها.
هكذا نجد أنفسنا أمام ثلاثة محاور عربية، وليس أمام محورين فقط، بما يعني في النهاية تقسيما وظيفيا وجغرافيا وايديولوجيا جديدا للدول العربية، وتحقيقا بشكل جديد لمشروع قديم، مشروع استعماري يرث الماضي، ويتلون بمتغيرات الحاضر، ويستعد لمخططات المستقبل، كما تراه القوة العظمى الوحيدة، قائدة ووارثة الاستعمار الغربي للمنطقة.
ولقد تلون هذا المشروع بمسميات حديثة مختلفة، ربما أبرزها ما طرحه عجوز »بني إسرائيل«، شيمون بيريز في كتابه الشهير »الشرق الأوسط الجديد« الذي يضم تحالفا عربيا إسرائيليا غربيا واسعا، يعيد صوغ العلاقات الاستراتيجية في المنطقة، ومن هذا الاسم والمشروع، استقت الإدارة الأميركية الحالية، نسخة جديدة اسمتها »الشرق الأوسط الكبير، ثم الأكبر والأوسع« وأخيراً المسمى الذي استقرت عليه حديثاً كوندوليزا رايس »الشرق الأوسط الجديد« القائم على محور الاعتدال في مواجهة محور التطرف، والهادف إلى تذويب النظام الإقليمي العربي في تحالف أوسع، يمحي هويته أساساً!
وفي كل الحالات، وبصرف النظر عن المسميات المختلفة، أو المتماثلة، فإن أصحابها خصوصاً أميركا و«إسرائيل«، يعملون ويفكرون وينفذون، ما يريدونه بعيدا عن أفكار ومصالح وأهداف أهل هذه المنطقة من العرب، وربما رغما عن إراداتهم، بل تنفيذا لما يراه التحالف الأميركي الأوروبي الإسرائيلي، محققاً لأهدافه الاستراتيجية، خصوصاً الإسراع بإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية في المنطقة، بعد التأثير العميق الذي أحدثته المتغيرات والصدمات الكهربائية المؤثرة، من التورط الدموي في حرب العراق، إلى اتساع مواجهات حرب الإرهاب، إلى تأزم القضية الفلسطينية، إلى الإحباط الناشئ عن الفشل في الحرب العدوانية على لبنان، وصولا لاقتحام الملف النووي الإيراني للساحة الملتهبة.
وفي حين ترى أميركا والتحالف الغربي الإسرائيلي، أن الخطر الداهم على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، يأتي أولا وأساسا من البرنامج النووي الإيراني، ومن خطر تصاعد العنف والإرهاب في حلف التطرف، يرى بعض العرب أن الخطر القائم والكامن يأتي حقيقة من استمرار تعقد الصراع العربي الإسرائيلي، وعدم الإقدام بوضوح على تسويته تسوية عادلة، والمعنى أن أميركا، ومعها الغرب و«إسرائيل«، تريد إرجاء تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، لحين مواجهة واجهاض الخطر النووي الإيراني، بينما يرى بعض العرب عكس الوضع، حفظاً لماء الوجه، ومحافظة على بقاء الحكم.
وبقدر ما تستعجل أميركا وحلفاؤها، تشكيل وتدعيم »محور الاعتدال«، ليكون رأس الحربة في مواجهة محور التطرف، ولكي يحارب العرب بعضهم بعضاً »تعريب الصراع« حتى يخف العبء عن الكاهل الأميركي الإسرائيلي، بقدر ما يجب أن يستغل العرب هذه الحاجة والالحاح الأميركي على الاصطفاف الموحد، لدفع السياسة الأميركية لتحرك جديد في حل الصراع العربي الإسرائيلي، باعتباره المصدر الرئيسي للتوتر والعنف والتطرف.
وأظن أننا الآن في مواجهة احتمالين بارزين... الاحتمال الأول ان تستجيب أميركا للمطالب العربية، بتحريك شكلي أو مرحلي لتسوية فلسطينية إسرائيلية غير مكتملة، لكنها تكفي لإغراء العرب ولجذبهم نحو تحالف الشرق الأوسط الجديد، ولحفظ هيبة النظم العربية المعتدلة في مواجهة شعوبها المنتفضة.
أما الاحتمال الثاني، فيكمن في أن يقدم التحالف الأميركي الإسرائيلي، على إحداث مزيد من الاضطراب والعنف في المنطقة (في ظل نظرية الفوضى الخلاقة) سواء بتوجيه ضربة لسورية أو لإيران، أو بمزيد من الاغتيالات لشخصيات بارزة هنا أو هناك، أو بالقيام بمغامرات وغزوات سريعة، تحرق وتدمر، وتترك وراءها صرخات الاستغاثة... ودعوات الاستسلام.
وبين الاحتمالين ننام ونصحو على قلق وتوتر، وهذا هو المطلوب!
خير الكلام: يقول أبوقاسم الشابي:
فما بالك ترضى بذل القيود
وتحني لمن كبلوك الجباه
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1496 - الثلثاء 10 أكتوبر 2006م الموافق 17 رمضان 1427هـ