فرانسيس كوبولا، في »الأب الروحي«، وأوليفر ستون، في »مركز التجارة العالمي«، ومايكل مور، في »فهرنهايت«، يتصدّون إلى فضح وتفكيك الآلة السياسية الأميركية.
لا نماذج للثلاثة في كل التجارب السينمائية العالمية. لا تجارب مشابهة لهم من حيث المباشرة وتسمية الخلل والمؤامرة والدسائس والطبخات والتخريجات والتبريرات بأسمائها. سمّوا لي واحداً بعد أولئك الثلاثة، وسأنهي هذا المقال بعد هذه النقطة مباشرة.
الأول فضح التركيبة المجتمعية والفساد السياسي والأمني والاقتصادي والأخلاقي، وحتى الديني ( وصولاً إلى الفاتيكان) في الجزء الثالث. وستون في مجموعة من أفلامه التي عرّى فيها المؤسسة السياسية والعسكرية الأميركية بسبب الحرب على فيتنام، في معالجات لم يستطع أي مخرج أميركي أن يتجاوزها من حيث لغتها وحتى صداميتها.
ستون تصدّى لكتابة سيناريوهات تلك الأفلام بلغة تاخمت الكثير من الشعر، ولأن صدمة التجاوزات والإرهاب والإبادة التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية في فيتنام، تجاوزت الحدود التي لا يمكن للعقل البشري أن يستوعبها أو يتصورها، عمد إلى اللغة الشعرية، ليس لتخفيف الصدمة المنبعثة من تلك المشاهد والممارسات، بل لأنه على رغم قدرته وإمكاناته الكبيرة كان أعجز من أن يُلمّ ويحتوي تلك الصور، فكانت المعالجة الشعرية ملاذاً طبيعياً وأخيراً لتلك الفظاعات.
مور كان أكثر من صدامي مع المؤسسة السياسية الأميركية من خلال أفلامه الوثائقية التي كشفت عن جرأة ملفتة تدعو إلى الإعجاب بتصدّيه المباشر، ومساءلته الأكثر من مباشرة، وترصّده واعتصامه القريب من مراكز القرار، واستجوابه الذي لا يسفر عنه شيء لعسكريين وبرلمانيين وأعضاء في مجلس الشيوخ، أولئك الذين لم يجرؤوا على تبرير عدم مشاركة أبنائهم في الحرب العالمية على العراق!.
أظل أكثر انحيازاً لـ مور أكثر من كوبولا وستون، لأن الناتج المباشر لإنجاز الثلاثة لم يتبدّ إلا من خلال مور وجرأته وشجاعته ومواجهته التي لم ولن تشبهها أية مواجهة لأي مخرج في تاريخ هذا الفن منذ بدايته الساذجة، وحتى تاريخه الراهن الملئ بالمعجز والصادم.
وثائقية مور تشتغل وتنشغل بمفصل المواجهة. ظل مور يؤمن: أنْ لا مستند أو فيلماً وثائقياً يمكن التعويل عليه، ويمكن أن يترك أثره في الوسط الذي يعمّم وينتج فيه، ما لم يكن مستعداً، ويمتلك أدواته الضرورية واللازمة لتفكيك وسط الممارسة وواقعها. وهنا علينا أن نذهب في ربط واقعي وماثل بين وثائقية مور، والتسخير النظري لنعوم تشومكي، فالأخير اشتغل على التحليل النفسي والسياسي في توظيف نظري أسس له وظل - ولايزال - رائداً فيه، يرتبط بالنحو التوليدي والتحويلي، ووجه التسخير ينطلق من (مَنْطَقَة) وتقعيد وتأصيل وقراءة محصلاته. فمثلما اشتغل تشومسكي على تعرية وتفكيك الآلة والمؤسسة السياسية الأميركية، ضمن رؤيتها النصية واللغوية، عمّق مور من الممارسة باستغلال واحد من معطيات الثقافة الراهنة والخطرة: السينما، الكاميرا، فيما يشبه الاختزال، وأحياناً التوأمة بين الاثنين: نص الكتابة/التحليل/القراءة، ونص الكاميرا/الفراغ/الصمت، وأحياناً الشتائم الصادرة عن الطرف المُستجوب.
كوبولا نأى بنفسه على مستوى الانتاج والإخراج عن الخوض في المأزق الأميركي، بالاحتلال الأميركي للعراق، ومن قبله الانقلاب والاحتلال لأفغانستان، في لعبة تغيير الأنظمة والإرادات والخيارات، فيما تريث ستون في تعامله مع تخبط السياسيين في بلاده، وإشاعتهم لحال من الفوضى في العالم - كل العالم - واستدراجهم، وتراكم مزيد من الأعداء لهم. ووحده مور الذي سبق الاثنين معاً في التنبيه إلى خطورة اللوثة العقلية والعصبية الرابضة في البيت الأبيض، قبل أن تسفر حكومة بلاده عن نواياها في التعاطي مع العالم بروح هي في الذروة من عنصريتها، وقبل أن تطعن حكومة اليمين المتطرف في كبريائها الذي لن تنساه، وإن أدى ذلك إلى تدمير العالم كل العالم.
هل توقف الأمر على مخرجين كبار ظلوا على القائمة السوداء في سجّل الانتماء الأميركي الأعمى؟.
الأمر تعدّى ذلك بكثير، اذ لم يفاجأ العالم بنجوم من الدرجة الأولى أمثال: كلوني، شين بين، ميل غيبسون، وانجلينا جولي، وغيرهم حين فتحوا النار على هستيريا الاستفراد بمصير العالم، وتجاوز ذلك بالتعدّي على واحد من ثوابت خصوصيات المجتمع الأميركي بتمرير قانون التنصّت على المكالمات الهاتفية.
ثمة توجه تتصدّى له النخبة، وحتى المهمشون في المجتمع الأميركي لوضع حد لآلة الدمار التي تسعى الإدارة الأميركية إلى منحها تفويضا مفتوحاً على الخراب والدمار ومصادرة خيار العالم في أن يحيا ويتنفس بشيء من الكرامة
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1496 - الثلثاء 10 أكتوبر 2006م الموافق 17 رمضان 1427هـ