انتهى العصر الذهبي للعلمانية، وخبأ معه الحماس المفرط بالعلمانية كايديولوجيا خلاصية. وصار الحديث يدور حول ما سمّاه هابرماس مجتمعات ما بعد العلمانية، أي مجتمعات تتجاوز العلمانية كدين مقدّس ونظام لا يُمسّ، وتؤمن بدل ذلك بالتعددية الثقافية والدينية.
وإذا كان هذا الكلام صحيحاً على مستوى العالم باستثناء فرنسا، فإنه يكون أكثر صحة في العالم العربي، إذ تبدّدت أوهام كثير من المفكرين العرب بالإيمان الخرافي بالعلمانية كايديولوجيا للخلاص والتغيير والتقدم، وبهذا فقدت شعارات هذه الحقبة بريقها الأخاذ، ونذكر من بين هذه الشعارات ما يأتي: العلمانية هي الحلّ، لا حل لمشكلات الوطن العربي إلا بتبني العلمانية، إنكار العلمانية جهل بالحضارة الحديثة، لا تقدّم وتمدّن إلا بالعلمانية، مهمة التغيير مرتبطة بتبني العلمانية.
وبدلاً من هذا الحماس صار المفكرون العرب، اليوم، أكثر جرأة على نقد فكرة العلمانية حتى ان مفكراً عربياً من حجم محمد عابد الجابري كتب قبل أكثر من عقد من الزمان بأن مسألة العلمانية في الوطن العربي مسالة مزيفة، وأن العلمانية شعار ملتبس. بل يذهب الجابري إلى أبعد من هذا القول حين يرى أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية فهما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي (وجهة نظر، ص104).
إلا أن الجابري لا يتنكّر لحقيقة مهمة وهي أن العلاقة بين الدين والدولة لا تطرح نفسها كمشكل لا على الفكر ولا على المجتمع ولا على السلطة إلا في الأقطار ذات التعددية الدينية والتي تمارس فيها الدولة التمييز بين المواطنين على أساس الدين. ومن هنا كانت المجتمعات ذات التعددية الدينية هي أحوج المجتمعات إلى العلمانية، وهي الأكثر مطالبة بضرورة فصل الدين عن الدولة، لأن الدولة لا تكون دولة الجميع إذا كانت السيادة فيها لدين معين دون بقية الأديان. أما المجتمعات التي لا تعرف التعددية الدينية فلا معنى فيها للعلمانية وفصل الدين عن الدولة، بل يصبح الكلام عن العلمانية هراء لا معنى له.
ولكن من التزييف أيضاً الادعاء بأن هناك اليوم مجتمعاً موحّداً بالكامل، فكل المجتمعات تعرف أشكالاً من التعددية الدينية أو الطائفية أو العرقية أو الايديولوجية، وهو الأمر الذي يعني أن على الدولة أن تكون حيادية تجاه جميع المواطنين وألا تمارس التمييز بينهم على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو الايديولوجيا. وحين ذهب الجابري إلى القول ان ثنائية الدين والدولة ثنائية مزيفة، فإنه كان يقصد أنها لا تعبّر عن حاجات المجتمع العربي الحقيقية، غير أن الجابري نفسه يؤكد أن زيف هذه القضية يكمن في كونها تخفي مشكلة أخرى حقيقية... هي مشكلة الطائفية في بعض الأقطار العربية. وعلى هذا فإن المطالبة باستبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية مطالبة شكلية هدفها الأساسي استخدام مصطلحات حيادية تحل محل مصطلح صار محمّلاً بدلالة ايديولوجية أقل ما يقال عنها انها على غير وفاق مع الدين، كي لا نقول إنها على خصام معه، وهو ما جعل من هذا المصطلح مصطلحاً سيىء السمعة في المجتمعات العربية والإسلامية، بل إن بعض البسطاء من الناس والنخبة الدينية لا يذكرونه إلا مقروناً بالإلحاد والمادية وإلغاء الدين. ولهذا نقول إن استبدال المصطلح مجرد إجراء شكلي على أهميته طبعاً، في حين ان جوهر الموضوع هو المطالبة بنظام سياسي يحفظ حقوق المواطنة ويؤمّن حيادية الدولة تجاه الاختلافات الداخلية سواء كانت دينية أو طائفية أو عرقية أو ايديولوجية، ويقوم على قوانين عامة يتساوى أمامها جميع المواطنين من دون تمييز.
ولا أتصوّر أن العلمانية في أصل نشأتها تعني أكثر من هذه المطالبة، فهي مجرد وسيلة أو مجموعة تدابير قانونية وسياسية في خدمة قِيَم الديمقراطية (الحرية، المساواة...). وإذا جرى اختزال هذه التدابير القانونية والسياسية إلى مقولة فصل الدين عن الدولة فلأن ذلك يرجع إلى أن أوروبا قد مرّت بحروب أهلية دينية طاحنة، فكان المخرج من ذلك هو المطالبة بحيادية الدولة تجاه الاختلافات الدينية. ولهذا السبب تجد التنظير لمفهوم العلمانية يقترن عادة بالتأصيل لمفهوم التسامح الديني، فجون لوك (1632 - 1704) يكتب رسالة في التسامح ويطالب فيها بحيادية الدولة، وأن يكون لكل مواطن الحقوق نفسها التي للآخرين من دون تمييز، وأن هذا لا سبيل إليه إلا من خلال التمييز بدقة ووضوح بين مهمات الحكم المدني وبين الدين، وتأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما. وإذا لم نفعل هذا فلن تكون هناك نهاية للخلافات والتي ستنشأ على الدوام بين من يملكون الاهتمام بصالح نفوس البشر من جهة، ومن يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى (ص23). وصالح الدولة، بحسب لوك، يقوم على توفير الحقوق المدينة والخيرات الدنيوية، وهذه حقوق وامتيازات لا علاقة لها بالدين، بل ليس للدولة أي مبرر في الاعتداء عليها وممارسة التمييز في توزيعها بين المواطنين على أساس الدين، وليس من حق أحد أن يقتحم، باسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية، وبتعبير جون لوك فلا الأفراد ولا الكنائس ولا الدولة لديها أي مبرر في الاعتداء على الحقوق المدنية والخيرات الدنيوية بدعوى الدين.
كتب جون لوك هذا الكلام وأوروبا، وإنجلترا على وجه التخصيص، تعيش انقساماً دينياً حاداً بين الكاثوليك والبروتستانت. وبالنسبة الينا، نحن البحرينيين اليوم، فإن كلام جون لوك عن الدين لا يعنينا بدرجة ملحة، لأن الانقسام الحاصل في المجتمع البحريني لا يقوم على أساس ديني، بل على أساس طائفي. ومن هنا فإن ما يعنينا من كلام جون لوك هو حديثه عن حيادية الدولة، وضرورة المطالبة بفصل الطائفية عن الدولة، وتكريس حقوق المواطنة بين الجميع.
وهنا ينبغي التذكير بأن الوظائف والترقيات والبعثات والمنح والخدمات الإسكانية وغيرها من خيرات عامة وخدمات توفرها الدولة للمواطنين إنما هي حقوق مدنية وخيرات دنيوية وامتيازات لا دخل لها بالطائفة، ولا يحق لأحد، مهما كان، أن يميّز بين المواطنين في هذه الحقوق على أساس طائفي، فيدني من ينتمي إلى جماعته ويقصي الآخرين المختلفين.
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1495 - الإثنين 09 أكتوبر 2006م الموافق 16 رمضان 1427هـ