في لحظةٍ تاريخيةٍ تعبِّر عن انكسارة شعبٍ عظيم، كان موكب أنور السادات يعبر شوارع القاهرة مع ضيفه الصهيوني مناحيم بيغين، بينما اصطف على جانب الطريق الآلاف ليلوّحوا بالأعلام، في عرضٍ تلفزيوني يخدع الأبصار.
كان هناك صحافيٌ يجلس على شرفةِ مكتبه المطل على النيل، وهو يرى الموكب ويشعر بمرارة لحظة الانكسار. في صدره ازدحمت مشاعر متضاربة، وأخذت تتوارد على عقله صور 15 عامًا من الكفاح إلى جانب صديقه عبدالناصر، من يوم شراء الأسلحة التشيكية وتأميم القناة وإنشاء السد العالي، إلى نكسة حزيران وانتهاءً بيوم الوداع. ولأنه كان قريبًا من عبدالناصر، كان وقع الصدمة على قلبه كبيرًا. من هنا فكّر هيكل في لملمة أوراقه وحزم حقائبه و...الرحيل.
بعد لحظة من التفكير ومراجعة النفس، عاد يحدث نفسه: »بل أنا باقٍ هنا مع النيل... وهما اللذان يجب عليهما الرحيل«.
في لحظات الانكسارة التاريخية، تسيطر على نفوس الكثيرين فكرة الرحيل، وفي مقدمة هؤلاء الشباب. فإذا كانت البلاد خرابًا، وما يجري لا يعدو كونه كذبة كبرى، والمستقبل مظلمًا، والنفق الطويل لا ينتهي إلا إلى المجهول... فلماذا البقاء؟
البعض فكّر بهذه الطريقة السهلة، وهؤلاء ليسوا من طبقة العمال والكادحين، بل من الشريحة المتعلمة، أطباء وصحافيين ومثقفين... أحدهم قال: »كنت أعيش في دولة مجاورة معززًا مكرمًا لأكثر من 15 عامًا، فما الذي جعلني أفكر في النزول؟ ولماذا البقاء الآن ماداموا يدفعوننا إلى المحرقة التي يعدون حطبها«؟
زميلة في مقتبل حياتها الصحافية تتميز بالنشاط والجدية، فكرت أيضا بالرحيل: »فأنت لا تشعر بأن هناك مستقبلاً ينتظرك مادامت هذه العقول موجودة بيننا، ما الفائدة من البقاء؟«.
وإذا كان تفكير بعض الزملاء المعتادين على المواجهة وعدم الاستسلام - بحكم التكوين الثقافي والمهني- اتخذ هذا المنحى، فإن هناك كفاءات علمية أخرى، فكّرت أيضاً في الرحيل، من كوادر الجامعة الوطنية إلى سلك التدريس والأطباء. وفي التغطية السطحية للظاهرة، عادةً ما يتم التركيز على الجانب المادي، فينحصر الحديث في قضية الكادر والراتب والحوافز المادية، بينما الأمر أكبر من ذلك وأخطر، حين يشعر المواطن صاحب الكفاءة أنه غريبٌ في وطنه، محارَبٌ في رزقه، تتآمر عليه قوى خفية هنا وهناك. فأنت أمام جريمة تفريغ وطن من كفاءاته وكوادره، وإحلال عناصر من الخارج محلهم.
عند هذه النقطة تلتقي مصالح عدد من القوى ومراكز النفوذ لتحقيق هذه الغايات والأهداف المعادية للوطن، وإشاعة الفوضى واليأس في صفوف أبنائه، من أجل مصالح قصيرة النظر. وفرقٌ بين أن تشم الرائحة وبين الوقوع فجأةً على منظر الجيفة، هنالك تكون الصدمة التي تغري بالرحيل. باحثة أكاديمية قالت: »لم أندهش منها فقد كانت في مجملها حقائق على الأرض«. مدرس جامعي قال وهو يفتح عينيه على بداية النفق: »إنها صدمة قوية نقلتني إلى عالم آخر لا مكان فيه للضمير أبداً«. بينما قال أحد الفنانين: »قتلني وجع الرأس والقهر مما يجري، ولا أحسب أني سأعيش حتى الخمسين«.
والثقة كالزجاج، ما أسهل أن تظهر عليه الخدوش، فكيف إذا تحطّمت المرايا؟ وهل من أملٍ في ترميم الزجاج المهشّم؟ ومع ذلك نقول لكل هؤلاء المحبطين واليائسين والعازمين على الرحيل... لقد رحلوا وبقي هيكل على شرفته المطلة على النيل، كما بقيت منارة الخميس
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1495 - الإثنين 09 أكتوبر 2006م الموافق 16 رمضان 1427هـ