الإدارة الأميركية في سباق مع الوقت، فهي تحاول على مختلف الجبهات تسجيل موقف يعطيها دفعة من الشعبية قبل بدء الانتخابات النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وحتى الآن تبدو كل المحاولات وصلت إلى طرق مقفلة على مستويات عدة وخصوصاً في الداخل. والمؤشرات البيانية كلها تذهب إلى مصلحة الحزب الديمقراطي. إذ أظهرت الاستطلاعات الأخيرة تقدم الحزب المنافس. وفي حال استمر هذا الترجيح من دون تعديل جوهري فمعنى ذلك أن الرئيس جورج بوش سيلاقي المزيد من الصعوبات في الفترة المتبقية من ولايته الثانية.

الأمور اذاً بدأت تصل إلى نهايتها وأخذت عجلة الدفع تنقلب في الاتجاه المعاكس. ويرجح أن تستمر شعبيته في التدهور إذا استمر الفشل يلاحق «البيت الأبيض» كما هو واضح الآن من شرق المعمورة إلى غربها.

في الشرق تبدو أوضاع واشنطن ليست جيدة بسبب توتر العلاقات مع الصين على اثر تلك التصريحات الاستفزازية التي أطلقها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد منتقداً فيها سياسة التسلح التي تعتمدها بكين. وبلغت الوقاحة برامسفيلد إلى حد أنه طالب القيادة الصينية بخفض إنفاقها على الدفاع معتبراً أنه فاق الحد المقبول دولياً. وكان رد بكين عليه حاسماً وساخراً حين ذكرت «انظر من يتكلم». والرد جاء صافعاً في اعتبار ان الانفاق الأميركي على الحروب والتسلح يفوق مجموع موازنات الدفاع للدول الأربع الكبرى في مجلس الأمن (بريطانيا، فرنسا، روسيا والصين) على رغم أن المساحات الجغرافية والتعداد السكاني بين الدول الأربع وأميركا لا يقارن لا بالنسبة ولا بالحجم ولا بالحاجة.

التوتر الصيني - الأميركي في شرق آسيا ليس الوحيد. فهناك أيضاً ملف النووي الكوري الذي وصل إلى ذروته في الأسبوع الماضي حين هددت كوريا الشمالية بإجراء تجربة اختبارية. ووجدت الولايات المتحدة نفسها مغلولة ولا تستطيع التحرك منفردة للدفاع عن دولها الصديقة. واضطرت واشنطن إلى اللجوء إلى غريمها الصيني في محاولة لاقناعه بضرورة المساعدة في الضغط أو على الأقل تمرير قرار دولي يتخذ تدابير من شأنها اقناع كوريا بعدم تنفيذ تهديدها. وحتى الآن لاتزال المشاورات قائمة للتفاهم مع الصين وروسيا على موقف موحد يتجاوز حدود العتب.

بعد الصين وكوريا الشمالية تأتي الهند وباكستان وأفغانستان وهي كلها تعاني مشكلات مع السياسة الأميركية. فالهند تتجه نحو تمتين علاقاتها التجارية والتسليحية مع موسكو. وباكستان لم تعد في موقع يعطيها تلك القدرات المطلوبة أميركياً لضمان مصالحها في منطقة مضطربة. بينما أخذت أفغانستان تشهد تصعيداً ضد الوجود العسكري الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. فأفغانستان ليست على علاقة جيدة مع باكستان كذلك لم تستطع حكومة كابول تنظيم نفسها بعد الاحتلال بسبب الفوضى الأمنية وانتفاضة القبائل وعودة حركة «طالبان» إلى الظهور مجدداً على الساحة.

إلى الوراء

بعد أفغانستان نصل إلى إيران. هنا أيضاً تعاني الولايات المتحدة من مشكلات قديمة/ جديدة مع الجمهورية الاسلامية. فطهران حتى الآن لم تتراجع عن مواقفها المعلنة بشأن حقها في تخصيب اليورانيوم والبحث عن مصادر بديلة للطاقة وحاجة اقتصادها لتنويع تلك المصادر. وهذا الموقف أسهم في ارباك السياسة الهجومية الأميركية وأخذ بحشر واشنطن في زاوية حادة لا تعرف كيف تخرج منها في حال لم تلق الغطاء الدولي المطلوب.

وفي العراق يبدو الموقف الأميركي لايزال على حاله. فالقوات المحتلة تتعرض يومياً لهجمات مؤذية بينما الفوضى الأمنية تمتد وتنتشر في مختلف المناطق حتى في تلك المحافظات التي كانت واشنطن تراهن عليها. والموضوع العراقي سيبقى تلك الشوكة المدمية في حلق بوش. والرئيس الأميركي مرتبك في خياراته وحائر في سياسته فهو يعترف بارتكاب أخطاء ويصر على الاحتلال وأحياناً يهدد دول الجوار بتوجيه ضربات عسكرية. وفي المجموع تبدو السياسة الأميركية مرشحة إلى مزيد من التدهور بعد أن أخذت تظهر عقبات جديدة تعطل عليها حركتها العسكرية.

وفي سورية ولبنان وفلسطين لا تبدو واشنطن في موقع مريح وخصوصاً بعد إقدامها على ارتكاب ذاك العدوان المدمر في يوليو/ تموز الماضي. فالعدوان رفع من نسبة العداء للولايات المتحدة وأربك الدول المجاورة ولم يعد بإمكان «البيت الأبيض» التصرف من دون البحث عن خطة بديلة تبدأ بتقديم تنازلات سياسية أو تذهب باتجاه الضغط على تل أبيب وإلزامها بالانصياع للقرارات الدولية. وزيارة وزيرة الخارجية الأميركية التي بدأت تحت عناوين كبيرة انتهت إلى أفكار متواضعة لا تساعد على اخراج المنطقة من مأزقها.

حتى تركيا لم تعد في المكان الذي قررته واشنطن لها. فأنقرة التي ترغب في ممارسة دور يتناسب مع حجمها وموقعها في المنطقة لاتزال تواجه الاعتراضات الأوروبية وتسد أمامها باب الانتساب إلى منظومة الاتحاد. وبين الرغبة التركية والانغلاق الأوروبي تجد الولايات المتحدة نفسها في موضع صعب لأنها وعدت أنقرة بمساعدتها في مسألة الانضمام ثم وجدت أن قدراتها على الضغط محدودة ولا تصل إلى درجة تسمح لها بإجبار الاتحاد على قبول عضو (مسلم) لا تريده أو تخشاه لعوامل جغرافية وتاريخية ودينية.

وفي أوروبا هناك ما يشبه حركة تمرد خفية ضد سياسة الولايات المتحدة. وهذه الحركة تتجاوز السياسة إلى الثقافة والسلوك ونمط الحياة. فأميركا لم تعد ذاك النموذج بالنسبة إلى الكثير من السياسيين والنخب والكادرات العلمية والمثقفة. وهذا ما دفع رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير إلى ابداء انزعاجه في الشهر الماضي من هذا «العداء الفظيع وغير المبرر» لدى شريحة واسعة من الأوروبيين في كره أميركا. واستغراب بلير ليس مفتعلاً إذ هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد تبرم الأوروبيين قيادة وقاعدة من نهج «البيت الأبيض» وأسلوبه القهري في فرض شروطه على الآخرين. وما حصل في أسبانيا وإيطاليا من انهيار لمواقع أصدقاء بوش يمكن توقع تكراره في أكثر من دولة أوروبية. إلا أن الجديد في الموضوع ليس التمرد على السياسة وانما بدء التمرد على تلك الثقافة الأميركية التي ازدهرت مؤقتاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكره .

عقر الدار

على المقلب الآخر من المحيط الأطلسي يمكن مشاهدة الصور نفسها في أميركا اللاتينية (الكاثوليكية). فهذه القارة التي كانت ساحة للسياسة الأميركية تحولت منذ نحو سنوات إلى ميدان للمنازلات والتحديات. وفي حال استمر نمو التيار المضاد للهيمنة الشمالية فإن الولايات المتحدة ستواجه مشكلات حقيقية على رغم مراهنتها الآن على دور سلبي يمكن أن يلعبه لمصلحتها بابا الفاتيكان الجديد. وهذا الرهان يمكن أن يتحرك ضد العالم الاسلامي ولكنه لن يفيد واشنطن في اعتبار أن سياستها لم تعد قدوة لجيل يتجه نحو التمرد والاستقلال. فالفاتيكان ليس وارداً، انه يملك الامكانات لتجديد ثقة الناس بسياسة تم تجربتها سابقاً.

اذاً تبدو واشنطن في حال حصار أو تراجع أو إعادة قراءة لمواقفها الاستعلائية بعد سنوات من الاحساس بالعظمة والشعور بالتفوق على الجميع. وهذا التغير يمكن ملامسته في الداخل الأميركي. والداخل يعتبر الحصن الأخير لبوش وتيار «المحافظين الجديد» وتلك الكتلة الشريرة التي تدير السياسة العامة للولايات المتحدة.

إدارة بوش في حال قلق من الشرق وصولاً إلى الغرب والجنوب الأميركي. وبقي الآن على «البيت الأبيض» أن يحافظ على موقعه في الداخل. ولكن الاستطلاعات التي ظهرت حديثاً تشير إلى تراجع شعبية الحزب الجمهوري وهناك مؤشرات تدل على ان احتمالات خسارته للانتخابات النصفية باتت أقوى من امكانات فوزه. وفي حال فشل بوش في عقر داره لابد أنه سيواجه استحقاقات كثيرة منها ظاهر في العراق وفلسطين و«الشرق الأوسط» ومنها لا يزال في طور الظهور ولن تعرف معالمها كلياً قبل نهاية ولايته الثانية في .