العدد 1493 - السبت 07 أكتوبر 2006م الموافق 14 رمضان 1427هـ

الصهيونية ضمن أزمة المفاهيم المزمنة!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

جاءت المحاضرة الأخيرة للباحث الموسوعي المتخصص في الصهيونية والجماعات اليهودية عبدالوهاب المسيري، التي نظمها مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، لتسلط المزيد من الضوء على قضية وجودية معقدة، وأزمة مفهومية مزمنة، لطالما عانى من تبعاتها عالمنا العربي والإسلامي، بنخبه ومفكريه ونواته الشعبية والاجتماعية منها.

ولكنها على رغم ما تحفل به هذه القضية من أهمية شرطية أساسية، لتحديد ضمانات البقاء، وانتقاء آليات المقاومة الفاعلة، الذي لن يتأتى إلا مفعولاً من خلال تبني منهجية علمية سليمة لاستيعاب حقيقة التكون والتكوين الصهيوني الاستيطاني في قلب المنطقة، وإدراك متجرد للوظيفة الاستراتيجية التي يرتقي بها هذا الكيان مكانة، ومدى علاقتها التبعية بتوازنات القوى العالمية.

لا يمكن إنكار أن تلك القضية لاقت للأسف إهمالاً واسعاً سوى كتابات محدودة مقصورة على نخب وأفراد محددين بعينهم كالمسيري والمرحوم أحمد سوسة وغيرهم.

وهي رؤية موضوعية سابرة للأسف أتت في وقت شيوع نماذج لا حصر ولا أسر لها من التخليطات والتوليفات الشعبية والجمعية المستخلصة من ركام مستمر من التجارب والحوادث والصراعات التاريخية الجماعية والعابرة، التي أدت كما أسلفنا القول والتنبيه في مقالات سابقة إلى الوقوع في مكيدة قاصمة تم على إثرها تقليد الحركة الصهيونية و«الكيان الصهيوني»، وما ينضوي تحت ظلالهما من توجهات سياسية واستراتيجية وعسكرية بشرف اليهودية ذات الثراء التاريخي والروحي والمزاج الحضاري المعقد، وتم بالتالي الوقوع في «تديين» الصراع، والتعامل مع عصرية وحداثة العدو بأدوات ومناهج «مفهومية» تقليدية إن لم تكن بالية، إلا أنها عفا عنها الزمن!

ليكن حينئذ المصاب بمرض «النصوصية» حسبما أطلق على هذه الظاهرة العامة المسيري في إحدى مقالاته بصحيفة «الاتحاد» الإماراتية.

أضيف وأذكر في السياق ذاته الصدور المتأخر، ولكن الملبي لكتاب قيم تحت عنوان «المناهضة اليهودية للصهيونية»، من تأليف المؤرخ اليهودي ياكوف رابكن، عن مركز دراسات الوحدة العربية، ويتناول أبعاد وعلاقات الصراع الداخلية بين الجماعات اليهودية المتدينة من جهة، والصهيونية كدعوى ومبدأ وحركة وكيان فتنة وهرطقة من الجهة الأخرى.

وتكمن أهمية هذا الكتاب بالذات في الموضوع المتناول والمتعلق بالمعارضة اليهودية الداخلية للصهيونية سواء في عالم الشتات، أم داخل الكيان الصهيوني ذاته، من خلال ما احتواه من معلومات تفصيلية ومؤرخة، قد تبدو مستجدة، عن حيثيات المناوشات والصراعات الداخلية من جماعات يهودية متمسكة بأصالتها التراثية والروحية المتوارثة أباً عن جد، وحريصة كل الحرص على عدم الإخلال بالتعاليم الربانية، في مقاومة حتمية تأخذ أشكال متنوعة شتى ضد «صهيونية» دخيلة وطارئة، لكنها ليست بجديدة في التاريخ اليهودي، لكونها تتضمن أفكاراً ودعاوى ناسفة وهدامة للبنيان اليهودي بأكمله وعلى رأسها الأخذ بفكرة الدولة والقومية والعلمانية وغيرها.

وأشار المؤلف إلى الصعوبات التي واجهها الصهاينة في بداية دعوتهم ضد التقليد اليهودي إذ كتب «كانت الفكرة الصهيونية، مع كونها بسيطة وطبيعية، تبدو جديدة بكل تأكيد، لأنها حطمت آلاف السنين من التقليد اليهودي، ما قد يفسر صعوبة استقبالها المبدئي وسط اليهود»، ويضيف «سهل (الهسكلة) والعلمنة التي أدى إليهما انطلاق الوعي اليهودي الجديد، ولم تكن الصهيونية لتنجح إلا بإضافة جانب عرقي إلى ظاهرة العلمنة العامة مع ذلك».

ويتطرق بعدها المؤلف إلى ذكر وتبيان عدد من الحقائق التاريخية والوصفية عن المناهضين للصهيونية و«اللاصهاينة» ومنهم اليهود «الحريديين»، والذين يجمعون كغيرهم من مقاومي الصهيونية يهودياً على اعتبار «ايديولوجية الصهيونية كمفهوم غريب عن التقليد اليهودي لكنهم يتسامحون معه، ويستعملون دولة (إسرائيل) كأية تركيبة سياسية زمنية أخرى»، كما أنهم يرفضوا رفضاً باتاً أي خيار وتسليم إيجابي بوجود نوع من الصلة «بين الحماسة القومية وخلاص البشر الإلهي».

وبما أن أوروبا الشرقية كانت المهد التاريخي الأبرز للحركة الصهيونية، فإن الكاتب يجتهد، وفي سياق إجراء المقارنات والمقاربات الفكرية والايديولوجية التاريخية بين الصهيونية، ووسطها وحاضنها الأوروبي الفكري، ليتوصل إلى أن «الصهيونية إذاً هي قبل كل شيء جواب على تحديات الليبرالية والقومية أكثر من ردة فعل على معاداة السامية المحيطة»، كما أنها «لم تتمكن من الظهور قبل الثورة الفرنسية، أياً كانت شدة الاضطهادات ضد اليهود في القرون الماضية، وتشكل الصهيونية إذاً الانقطاع الأكثر جذرية في حياة اليهود».

وبحسب ما ذكره المؤلف من تهم يقذف بها «النقاد الدينيين» للصهيونية، فإن مثل هذه التهم تستند بدرجة كبيرة على ما ورد في سفر اللاويين من الكتاب المقدس تحديداً، وهو «فلا تقذفكم الأرض بتنجيسكم إياها كما قذفت الشعوب التي من قبلكم»، إلى جانب مقطع آخر وهو «فتحفظون جميع فرائضي وجميع أحكامي وتعملونها لكي لا تقذفكم الأرض التي أنا آتٍ بكم إليها لستكنوا فيها».

وبالتالي يجمع الكثير من نقاد الصهيونية والمناهضين لها بأنها وبجوهرها القومي العلماني العنصري والملحد فطرة، ستكون عاملاً حاسماً في زوال اليهود أنفسهم، وفي ضياع اليهودية التي مما لاشك فيه تعد الجامع المميز، والمظلة التاريخية الكبرى للجماعات اليهودية في أنحاء العالم المختلفة.

إذ تشير البديهية التاريخية إلى انعدام وجود رابطة لغوية واثنية وجغرافية طبيعية موحدة أو حتى بارزة بين الجماعات اليهودية عدا التعاليم السماوية المقدسة والمتنوعة تأويلاً وتلاوة، لذلك فإن إقدام الصهيونية المهرطقة على تجميع يهود العالم في فلسطين، والتجرؤ على استحداث هوية اصطناعية زائفة، ذات مفاعيل ناسفة لما قبلها، على أمل دمج اليهود وقولبتهم في قالب الدولة المعلمنة، والأمة والقوم والشعب الواحد على أرض مشتركة هو في حد ذاته أشبه ما يكون إبادة ممنهجة لليهود، وإخصاء روحياً، وامحاء ذهنياً لهم!

فيستشهد المؤلف بما قاله الحاخام آدان شتاينزالتس (الحائز على إحدى جوائز الإسرائيلية والمفكر ومترجم التلمود الشهير) إنه ووفقاً لذلك «ستصبح الأمة الإسرائيلية خالية من مضمونها النوعي اليهودي، وقد أصبحت، بحسب طريقتها في التفكير ونمط عيشها، أقل يهودية من أية أمة أخرى غير يهودية».

وعما مارسته وتمارسه الصهيونية من استهداف إبادي مباشر يرتبط على وجه التحديد بالجانب «المسياني/ الخلاصي» من اليهودية، يضيف ياكوف رابكن إلى مؤلفه نموذجاً من أقوال ساخرة، كان يقولها أحد أبرز الرواد الصهاينة الأوائل، الذين من بينهم الشاعر جوزيف حاييم برينر القائل «ليس لـ (إسرائيل) مخلص: إلى العمل!».

لذلك وما تقدم أعلاه وقبل الخوض في تحليل آليات الصراع الصهيوني مع الأمة العربية الإسلامية، وتحديد مستقبل التفاعل مع ما يطرحه هذا الوجود الشاذ في المنطقة من تحديات مصيرية، وقبل الانطلاق في ابتداع اجتهادات فقهية دينية وسياسية توافق مقتضيات عصر اللوذ بـ «التطبيع» مع الكيان الصهيوني على أمل الهروب من تأدية وتلبية الكثير من الاستحقاقات الحاسمة المرتبطة بهيكلة وأبنية الفرد والمجتمع والدولة والتكتلات الإقليمية، ألا يحتم الأمر ضرورة العثور على مخرج حاسم وسليم من تلك الأزمة المفهومية النوعية، التي يقف فيها مفهوم الصهيونية جنباً إلى جنب سائر المفاهيم المعاصرة التي وإن توافر هنالك نوع من الوعي بأبرز محدداتها وملامحها الفارقة، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الوعي الجمعي قد تشربت مساماته واستوعب لبه مثل هذا المفهوم استيعاباً موضوعياً صحياً، وأدرجه مكاناً لائقاً ضمن أدراجه أو مدراجه

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1493 - السبت 07 أكتوبر 2006م الموافق 14 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً