الاعتدال في الشيء هو تلقيه كما هو بلا تطرف ولا ميلان، فالاعتدال في الدين هو فهمه بحقيقته الأولية الناصعة كما جاء من الله وبشر به النبي، ولكن ذلك يبدو أمراً صعب المنال إن لم يكن محالا فإن الفهم البشري لا يخلو عادة من التأطير بطبيعته فالعقل البشري محدود كمحدودية البصر والسمع فإذا كنا لا نرى ولا نسمع كل شيء فكذلك لا ندرك كل شيء، وهل يمكن للعقل العادي أن يحيط بكل أبعاد النص ومراميه؟
ولا أقصد من ذلك أنه لا جدوى من البحث العقلي في مجال فهم الدين بل مقصودي هو استحالة الفهم الكامل الأكيد، ويمكننا الحصول على نتيجة أكثر وضوحا عندما نلتفت الى مديات التأطير الاكتسابي لتفكير الفرد إذ إنه يستحيل انفكاك المفكر عن المؤثرات الخارجية من حوله التي تحدد لديه مساحة المفكر واللامفكر فيه بصورة غير قابلة للاجتناب حتى لو قام لله مثنى أو فرادى. وأما الآية «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة» (سبأ: ) فيمكن أن تكون بصدد التخفيف من العوامل المجتمعية الضاغطة وليس حذفها بالمرة فإن ذلك غير ممكن أصلا لأنه دائما توجد جذور ثقافية وركام اجتهادي وعادات موروثة وعوامل سياسية وغير ذلك من المؤثرات. ومن هنا أمكن القول باستحالة تحقق فهم ديني خالص فليست عملية التفكير سوى تحريك للمخزون الذهني والنفسي لدى المفكر وإعادة ترتيب عناصره ويستحيل أن يتعداه الى غيره، وحتى عندما يخرج الفرد عن الموروث ويتمرد عليه فإن ذلك يعود الى تأثير تجربة مر بها ذلك الفرد في زمان ما وانعكست على طريقة نظرته للأشياء. وعليه فالمفكر فيه عند شخص هو لا مفكر فيه عند آخر وبالعكس، والنتيجة استحالة الفهم الحر عند الناظر في النص ولذلك يختلف الأفراد المتعددون في طريقة تلقيهم للنص الواحد ويستحيل التطابق المطلق في الممارسة الدينية في مقام النظرية وفي مقام السلوك، وكذلك يستحيل الاعتدال التام فلا نكون بعيدين عن الحقيقة عندما نقول إننا جميعا متطرفون في الممارسة الدينية وإنما نختلف في مراتب التطرف فحسب.
ولكي أدلل على أهمية التقارب تجاه الاعتدال فمن المناسب أن أذكر ببعض الأمثلة. فلقد تناولت في مقال سابق مقولة التقليد بشيء من النقد ولم يكن هدفي الدعوة الى حذفها من مساحة التدين فإنها مقولة شرعية وعقلائية ولكن المقصود هو بيان أن التقليد كأية حال ترتبط بنظام الحياة له مساحة طبيعية يشتغل في ضمنها ويكون مقبولا في إطارها لكونه يساعد على حفظ النظم ويراعي الصلاحيات ولكنه عندما يتخطاها الى حال التجميد المطلق للعقل فإنه يصبح أرضية مناسبة جدا لتنامي الثقافة الشعبوية التي لا تفقه شيئا من لغة الاستدلال والبحث الموضوعي وتزداد حينئذ فرص الفوز لدى القادرين على التعبئة فحسب والذين هم الأرفع صوتا والأكثر قدرة على استغلال العواطف وشحذ الهمم والتوظيف الحسي لكل رمز مقدس، وتضمحل فرص الدليل ويتواضع العقل ويصبح التفكير الحر مخيفا جدا كأسلحة الدمار الشامل!
وكذلك الحال في تنامي ذهنية الاحتياط في الفتوى في العصور الفقهية الأخيرة (ثلاثة قرون الى الآن) وهو شيء حسن في نفسه مادام يعبر عن حرص واعتناء بالالتزام الديني وقيمه، ولكننا إذا نظرنا الى الكم الكبير للاحتياطات في مجموع المسائل الفقهية فسنكتشف تراكما قد يصير الشريعة السهلة السمحة شريعة ضيقة وصعبة التناول الى حد العسر، وقد قال الله «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» (البقرة: ) فمن ذا يستطيع ادعاء العلم بأن صاحب الدين يرضى بمخالفة إرادته؟ فالذين استحسنوا الاحتياط بصفة مطلقة نظروا الى إحدى ضفتيه ولم يعبروا الى الجانب الآخر بمعنى أنهم لاحظوا الذي له ولم يلاحظوا الذي عليه، وهذه النظرة المنقوصة للأشياء هي سبب رئيسي لمجمل حالات التطرف الفكري والسلوكي في مجتمعاتنا.
وواضح جدا أن المغالاة في المقولة الدينية حتى لو كانت بدافع الحرص الشديد على الدين هي خروج عما هو لازم من أخذ الأمور بطبائعها بلا زيادة أو نقصان. فالصلاة والدعاء لله مثلا هما خير موضوع ولكن لا يحسن التزيد فيهما الى حد الإخلال بالأشياء الأخرى في الحياة، ويغالي الفرد في الصدقات حتى يعد مسرفا أو مخلا بحقوق عياله أو يغالي في الحرص على عياله حتى يكون بغيضا لا يبالي بالضعفاء من الناس، والمغالاة في الصراحة صلف وسماجة والمغالاة في المداراة جبن ونفاق وبينهما مساحة اعتدال هي مزال الأقدام وموطن العثرات فمن منا لم يعاتب نفسه كثيرا لأنه تمادى في قول أو قصر في كلام؟ والحاصل أنه لا توجد مسطرة دقيقة لمساحة الاعتدال والموازنة بين الامور ومن استحال الاعتدال الحقيقي وصار غاية طموح الفرد هو الاعتدال التقريبي.
وعندما يتورم نموذج الفضيلة فإنه يفقد خاصيته الإيجابية ويكتسب اتجاها معاكسا، وقد جاء عن المعصوم - عليه السلام «ان الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» والسبب في ذلك هو أن الرخصة داخلة في مقاصد الشريعة كما هي الفريضة ولا فرق بينهما في قدر الأهمية فإنه كما للفريضة وجوه مطلوبة وفي التساهل فيها مخاطر وخيمة فكذلك للرخصة منافع ذات أهمية ويستتبع الحرمان منها تشوهات تربوية ونفسية لا يستهان بها، خصوصا إذا كانت تلك الرخص يقتضيها واقع متجدد ليس من السهل الخروج عن عهدته، وقديما قال أرسطو «الوسطية فضيلة بين رذيلتين».
وقد سألني أحد الناس يوما عن واجب النهي عن المنكر وقال أليس هو المسئول الأول عن حالات التشنج والإكراه والكراهية في المجتمعات المتدينة؟ فكان جوابي له هو أن النهي عن المنكر في ذاته ليس فقط ضرورة شرعية بل هو ضرورة عقلانية لحفظ النظام الاجتماعي إذ لا يوجد تجمع بشري يكون خاليا من ضوابط وقيود تكرس لأجلها الكثير من الطاقات وتسهر على حمايتها الكثير من الفئات كرجال الدين ومشرعي القانون والقضاة والشرطة وحتى الناس العاديين ولولا ذلك لم يأمن الناس على أنفسهم من دعاة الشر، ولكن أين الخلل؟ هو في نظري عندما يتضخم الجانب الوظيفي في النهي عن المنكر على حساب الجانب الإنساني فيه، فما مدى محاولات فهم دواعي مرتكب المنكر والبحث عن طرق علاجها في مجتمعاتنا؟ وما مدى وجود آليات التأهيل في نظم العقوبات والتأديبات الرسمية وغير الرسمية؟ وقد قلت يوما إن نظام التأهيل المقترن بالعقوبات هو من الاكتشافات الحديثة كغيره من الاكتشافات الإنسانية المعاصرة مثل مقولة التعددية والتي لا تقل في أهميتها عن الإكتشافات التقنية التي غيرت وجه العالم، ولعلي لا أكون مغاليا إذا قلت إن حقيقة التعددية يجب ان تكون مقياسا للتطور الاجتماعي والسياسي فنحن متقدمون سياسيا واجتماعيا بقدر انفتاحنا على التعددية بمقدماتها واستتباعاتها ومتخلفون سياسيا واجتماعيا بقدر ضيقنا بمبادئها.
ثم من الذي له حق تشخيص المنكر وتنفيذ عقوباته؟ أو لسنا هنا نعاني من مشكلة تضخم الذوات واهتزاز النظم؟ وهل حسم البحث عن آليات اختيار المرجعية، خصوصا في المجتمعات المختلطة من الأديان والأعراق والطوائف؟ ويطرح عادة في المجتمعات التقليدية تصوران لكل منهما محاسنه ومساوئه، فهل نعتمد المرجعية الشعبية والتي يمثلها رموزها المتخالفة أصلا ويترتب على ذلك الوقوع في نوع من الفوضى والتجاذب المتواصل بين القوى المختلفة في الرؤى؟ أم نعتمد المرجعية الرسمية ويترتب على ذلك الوقوع في فخ التسليم للقوى الغالبة والتي قد تصل الى السلطة بالطرق غير المشروعة؟ فهل نستطيع أن نفترض طريقا ثالثا تذوقته الدول المتقدمة وهو حال من التكامل المحير بين القوى الشعبية والرسمية يدعمها توازن بينهما في القوى والامتيازات، وأقول (محير) لأنه يشتمل على تمازج غريب بين التناغم والتضاد لا نعرفه بوضوح في مجتمعانتا التي تتأرجح غالبا بين المعارضة الموغلة في التحدي للسلطة وبين الموافقة الفاقدة لإرادة نقدها، ولكن ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني في الغرب تقوم بأدوار جادة في دعم القوى الرسمية في كل ما يعود الى حفظ النظام والاستقرار وحماية الوطن ومكتسباته ولكنها لا تنفك بالتزامن مع ذلك تمارس نقدا صارما - ولكنه موضوعي - في قبال السلطة ، فالقوى الشعبية هناك تقوم بدور التأييد للسلطة والتفاعل معها وعيا منها بأهمية النظام والمصالح الوطنية المشتركة ولكنها أيضا تمارس المعارضة والنقد وعيا منها بأهمية العدل وكرامة الإنسان، فهل نحلم بوعي الوسطية؟
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1491 - الخميس 05 أكتوبر 2006م الموافق 12 رمضان 1427هـ