يعتبر كتاب «طبقات الأمم» لكاتبه صاعد الأندلسي أحد أهم المراجع الفكرية في العصور الماضية. فالكتاب يمتاز بالكثير من العناصر الغنية في معلوماتها ويكشف أيضاً عن جوانب حضارية في التاريخ الإسلامي ويؤكد أن رجال هذه الثقافة كانوا على قدر من التواضع. فالإسلام في تكوينه الديني اعترف بالآخر ولم ينكر دور «الأمم» الأخرى وفضلها في رفد الإنسانية بالادباء والعلماء والفلاسفة.
ولد صاعد في المرية (الأندلس) في العام هـ (م) ودرس في قرطبة وطليطلة وعندما بلغ الأربعين وضع هذا الكتاب الثمين والقيم في العام هـ (م) الذي ترجم إلى لغات عدة واستفاد منه الكثير من الباحثين والمفكرين والفلاسفة في أوروبا.
فالكتاب يعكس في النهاية انفتاح أمة على الأمم كافة ويسجل بوضوح دور كل أمة في العمل والإنتاج وتميزها في حقل من حقول المعرفة.
وحين توفي صاعد في العام هـ (م) كان شابا لا يزال في طور النضوج الفكري. ولكنه على رغم قصر عمره ترك اثره المميز في التفكير الإنساني حتى حين لم يذكره الأوروبيون كمرجع من مراجعهم لأسباب عنصرية.
إلا أن بقاء الكتاب وصموده على مر الزمن كشف الكثير من تلك الملابسات واوضح بعض صور ماضي الحضارة الإسلامية المشرف ودورها الخاص في القاء الضوء ليس على دورها فقط وانما على أدوار الأمم الأخرى التي مرت في «طبقات» زمنية متتالية.
الألماني هيغل يعتبر أحد الفلاسفة الذين استفادوا من كتاب صاعد ومن مقدمة ابن خلدون. ولكن الفيلسوف هيغل لم يذكر في كتبه لا صاحب المقدمة ولا صاحب «طبقات الأمم» على رغم تأثره الواضح في جوانب كثيرة من أفكارهما.
هذا المقال يحاول قدر الامكان كشف تلك العناصر الخفية بين تأريخ صاعد لأفكار الأمم ومقارنته مع تأريخ هيغل لتطور الأفكار.
فكتاب صاعد صدر قبل نحو سنة من ظهور هيغل. وهذا الأمر يؤكد وجود شبهة ما تربط بين ما ذهب اليه الفيلسوف المسلم وتوصل إليه لاحقاً الفيلسوف الألماني من دون انكار لموقع هيغل وتميزه الفلسفي وتفوقه في ربط المراحل ضمن منهجية متسقة ومحكومة برؤية واضحة. وهذا الفارق يعود إلى اختلاف الزمنين وحصول تطورات أسهمت في بلورة الكثير من الزوايا الغامضة في حياة الإنسانية. فعصر هيغل عصر التقدم والصناعي والاكتشافات الجغرافية والثورات السياسية والتطور الأوروبي في مختلف حقول العمران والمعرفة، بينما عصر صاعد كان بداية الأحباط والتراجع والضغوط النفسية والعسكرية التي شهدتها الإمارات المسلمة في الأندلس.
هذا الفارق لا يعني ان مادة الفكر ومخططها التاريخي (الطبقات) والجغرافي والتقدمي الاجتماعي لم يترك تأثيره المنهجي على رؤية هيغل. فهذا الفيلسوف لابد انه استفاد من تلك المادة الخام واجتهد لتطوير المنهج الجغرافي - التاريخي الذي ابتكره صاعد لقراءة مصادر الفكر والتطور الزمني من أمة إلى أخرى ووفق تتابع تطوري (طبقة بعد أخرى).
اعتمد صاعد في كتابه على منهجية جغرافية (أفقية) تبدأ من الشرق إلى الغرب ولكنه قام بتكييفها زمنياً حين ربط منهجياً بين الجغرافيا والتاريخ مرتباً الأمم وفق تتابع عمودي (أمة بعد أخرى). كذلك لجأ صاعد إلى توصيف الأمم وتقديم ملخص عن خصائصها.
هذا المسار الثلاثي (الجغرافي، التاريخي، والتوصيفي) اعتمده ايضاً هيغل مع تعديلات كثيرة بسبب المتغيرات واختلاف الظروف والموقع والزمن، كذلك أحكم الفيلسوف الألماني سيطرته على الموضوع وقبض عليه بأسلوب محكم يميل إلى فلسفة التاريخ بينما اكتفى صاعد بعرض نتاجات الأمم ودورها من دون تقييم أو تجريح.
يتحدث صاعد عن سبع لغات رئيسية شكلت الأساس لكل المؤلفات والعلوم. وكذلك يتحدث عن ثماني أمم اعطت البشر ما تملكه من ثروات فكرية وفلسفية وعلمية وفنية وغيرها. والأمم برأي صاعد تتميز من مشارقها ومغاربها إلى جنوبها وشمالها بثلاثة أشياء «الاخلاق، الصور، واللغات».
وبرأي صاعد كان العالم في سالف الدهور و«قبل تشعب القبائل وافتراق اللغات سبع أمم» وهي أمة الفرس، والأمة الكلدانية (تشمل السريان، بابل، آشور، الأرمن والجرامقة). وأمة اليونان (تشمل الروم والافرنجة). وأمة القبط (وهم أهل مصر وأهل الجنوب)، وأمة الترك (وتشمل الخزر وجيلان وخوزان)، وأمة الصين (مملكتهم واحدة ولغتهم واحدة).
ويقسم صاعد الأمم إلى طبقتين: واحدة عنيت بالعلم وأخرى لم تعن بالعلم. ثم يقسم طبقة العلم إلى ثماني أمم هي: الهند، الفرس، الكلدان، اليونان، الروم، أهل مصر، العرب، واليهود (العبرانيون).
التقسيم المنهجي الذي اعتمده صاعد لا يختلف كثيراً عن ترتيب هيغل لتطور الفكر عبر الأمم من الشرق إلى الغرب. فصاعد يبدأ جغرافيا من الصين والهند كذلك هيغل. ولكن صاعد يتجه نحو التاريخ وتقادم الأمم زمنياً ليعود فيبدأ من الهند والفرس وينتهي في الغرب (الاندلس) ويتحدث عن انتاج العرب والعبرانيين.
أما هيغل فتمسك بالمنهج التاريخي وفق المجرى الجغرافي لشروق الشمس وغروبها، لذلك يبدأ بالصين والهند والفرس ويتجاهل الحضارة العربية الإسلامية لينتهي في الغرب (بروسيا الألمانية).
التشابه واضح والاختلاف في التفصيلات مضافاً إليه تميز هيغل بتلك المنهجية الجدلية (الديالكتيكية) التي اعطت قيمة فلسفية لأفكاره. وبسبب هذا التشابه كان لابد من مقارنة سريعة لتوضيح تلك الجوانب التي تحتاج فعلاً إلى قراءة ثانية وأكثر استفاضة للكشف عن ملابسات الموضوع.
انطلق هيغل، كما فعل صاعد الاندلسي، من الأساس الجغرافي لتاريخ العالم. فالعلاقة مع الطبيعة «تساعد على إنتاج روح شعب ما». فالأرض هي الجغرافيا «التي تتحرك عليها الروح» لأنها تساعد على «معرفة النمط الطبيعي» وصلته الوثيقة «بنمط الشعب وشخصيته التي هي ثمرة كمثل هذه التربة» (الجزء الأول، ص ). وبسبب الفارق الزمني بين المفكرين اختلفت الرؤية الجغرافية. فصاعد يؤمن بكروية الأرض إلا أن الاكتشافات الجغرافية في عصره كانت محدودة. فالعالم في كتابه يقف عند المحيط الأطلسي وتقف إفريقيا الجنوبية على حدود غانا والحبشة، بينما رؤية هيغل الجغرافية كانت أكثر وضوحاً بعد اكتشاف أميركا والدوران حول إفريقيا، لذلك قسم العالم إلى قديم وجديد. والجديد هو ما لا نعرف عنه كثيراً مثل أميركا واستراليا «لأن السكان الأصليين بعد أن هبط الأوروبيون أرض أميركا تلاشوا بالتدريج مع بداية ظهور النشاط الأوروبي» (الجزء الأول، ص ). والأمة الأصلية «قد اختفت، أو هي على وشك الاختفاء» (ص ).
وبعد شرح سريع لظروف أميركا الجغرافية وعدم تجانس شمالها البروتستانتي مع جنوبها الكاثوليكي بسبب اختلاف مذهبيهما ينتقل هيغل إلى الشطر القديم وهو «مسرح تاريخ العالم» إذ يفصله عن أميركا المحيط الأطلسي ويتصل المحيط بالبحر الأبيض المتوسط وهو ملتقى القارات الثلاث وكان «عنصر ربط دائم، ومركزاً لتاريخ العالم، بالنسبة إلى ثلاثة أرباع الكرة الأرضية» فهو قلب العالم القديم ومن دونه «ما كان يمكن تصور تاريخ العالم» (ص ).
يلجأ هيغل إلى تفصيل مقدمته الجغرافية ويحدد الفروق الخاصة ومدى تأثيرها الجوهري على العقل الإنساني. فهناك الأرض المرتفعة القاحلة بسهولها الواسعة وتقع «في وسط آسيا حيث يقطن المغول، وتمتد هذه السهوب من بحر قزوين في اتجاه الشمال حتى البحر الأسود، كما نجد أراضي مماثلة في منطقة الصحراء العربية، وصحراء البربر في إفريقيا» (ص ). وهناك السهول الوديانية وهي تجري «فيها الأنهار، وتدين بخصوبتها للأنهار التي كونتها» مثل الصين والهند والسند وبابل (دجلة والفرات) ومصر (النيل). وهناك الأرض الساحلية التي ترتبط مباشرة بالبحر (ص ).
وبسبب تلك الفروق اختلفت سمات سكان كل منطقة. فالبلاد الجبلية تكون مغلقة وتكون علاقة الإنسان بالحيوانات أقوى من علاقته بالأرض (الغزو والسلب). وسمات سكان السهول الوديانية تكون مركزة على ملكية الأرض ويترتب عليها نهوض علاقات سياسية (شرائع ودول). بينما يتميز سكان السهول الساحلية بالمغامرة والغزو والفتح والتجارة. فالماء يربط ويوحد وأيضاً يفصل الحدود. وتختلف علاقات الشعوب بالبحر فهناك شعوب تبدأ حياتها بالبحر بينما الصين تنتهي علاقتها به «فالبحر عندهم هو الحد النهائي للأرض» (ص ).
بعد أن ينتهي هيغل من التقسيم الجغرافي للكرة الأرضية والتمييز بين التضاريس وملاحظة الفروق بين سكان المرتفعات الجبلية وسكان الوديان السهلية (الأنهار) وسكان الشواطئ (سواحل البحر) ينتقل إلى دراسة أجزاء الكرة الأرضية الثلاثة «التي لها أهمية من حيث التاريخ» انطلاقاً من ملاحظة تنوع تضاريسها. فإفريقيا أقرب إلى الأرض المرتفعة، وآسيا تجمع بين المناطق النهرية والمرتفعات الجبلية، وتمزج أوروبا هذه العناصر المختلفة (المرتفعات، الأنهار، والبحار).
وقبل أن يباشر دراسة تاريخ تطور الأفكار قام هيغل بجولة على المناخات الجغرافية ووزع المناطق - كما فعل صاعد الاندلسي - إلى معتدلة وحارة ومتجمدة وتوصل مثله إلى نتائج «بشرية» متشابهة. وبزعمه أنه في المنطقة المتجمدة أو المنطقة الحارة «لا يوجد الموقع المحلي المناسب لظهور شعوب التاريخ العالمي» إذ إنه في المناطق المتطرفة «لا يستطيع الإنسان أن يكون حراً في حركته. فالبرد والحر في تلك المناطق من القوة بحيث لا يسمحان للروح أن تقيم عالماً لذاتها». ويعتبر هيغل أن الأسباب المناخية (الحر أو البرودة) جعلت من المناطق المعتدلة «مسرح التاريخ الحقيقي». ويميز بين شمال المناطق المعتدلة وجنوبها. فالشمال المعتدل متوحد وفيه أنواع من الحيوانات والنباتات لها خصائص مشتركة بينما مناطق الجنوب المعتدلة «فهي تنقسم إلى عدة أقسام وتتشعب إلى نقاط شتى»، وفيها الكثير من الأشكال الطبيعية تمثل بدورها «ملامح فردية يتباين بعضها بعضاً» (ص ).
ويبدأ هيغل دراسته التاريخية من مناطق الجنوب لكونها الأرض البكر التي دبت فيها الحياة وظهرت في عصورها الغابرة مختلف الحضارات الأولى. وينطلق من إفريقيا بصفتها أرض الطفولة التي حافظت على أصالتها (بدا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1491 - الخميس 05 أكتوبر 2006م الموافق 12 رمضان 1427هـ