العدد 1490 - الأربعاء 04 أكتوبر 2006م الموافق 11 رمضان 1427هـ

القصيدة الأخيرة!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

استيقظ فجر يوم السادس من يونيو/ حزيران ، على صوت الشيخ الحاج علي المهندس وهو يؤذن للصلاة. من وراء الباب جاءه صوت الحاج عبدالله فخرو (ره) يطلب من «السنطرية» الخروج إلى المرافق الصحية ليتوضأ. جلس هو الآخر وصلى، ثم قرأ ما تيسّر من القرآن، وأعاد قراءة سورة «المزمّل»، تنفيذاً لوصية أبيه بقراءتها قبل ذلك بخمسة عشر عاماً لتسلّيه في غربته داخل وطنه، وتخفيفاً لوحشته التي طالت ثم طالت.

كان وحيداً لم يتزوج بعد، لكنه كان يتخيّل أطفال إخوانه وجيرانه وأبناء الفقراء، ويتخيّل ما ينتظرهم من مستقبلٍ مجهول. كان عقله الطريّ يختزن صورة لبنان الحرب الأهلية. وكان يقلقه طرح السؤال عن المستقبل: ترى هل انتهت المحنة بالخروج إلى الشارع... أم انها بدايةُ حياةٍ أخرى لا تعرف الاستقرار؟ هل يكون الخلاص فردياً بمغادرة السجن أم ان حياةً أخرى تنتظره وينتظر بلدَه المجهول؟

كان حزيناً جداً... فكل الرفاق غادروا، وبقيت قلةٌ تنتظر الخروج اليوم أو غداً أو بعد غد. ولكي يتهرّب من الجواب، كان يدفن نفسه في قراءة ديستويفسكي وديكنز وسيرفانتس وماركيز. ومن بين ركام الكتب القديمة في مكتبة العنبر الشرقي ووسط عممعة الأحزان انطلق يكتب أبياتاً يعتذر فيها عن التقصير والإحساس بالعجز بعد كل هذا العذاب الطويل، كأنه حمّال أسية الوطن كله:

«أحبتي الصغار سامحوني

معذرةً إليكُم... أحبتي

فحُمرةُ الزهورِ في خدودِكُم أخافُ أنْ تصْفَرْ

نداوةُ الطلّ على وجوهِكُم... أخاف أن يلفحَها الهجيرْ

أحبّتي الصغارُ يا مباسمَ الأزهارِ سامحوني

براءةُ الأطفالِ يا أحبّتي أخافُ أن تطيرْ

كنتُ أريدُ روضةً تضُمُكم

تزرعُها أناملي لكم

كي تمرحوا وتلعبوا

وتبتنوا من طينِها القلاعَ والقصور

كنتُ أريدُ أقلعُ الأشواكَ من دروبِكُم

أخافُ أن تدمَى بها أقدامُكُم

لكنّني فشلتُ... فاعذروني

كبرتُ يا أحبتي

وشخت يا أحبتي في بُعدِكُم

وحبُّكُم كالنارِ تصطليني

تقوّس الظهرُ أيا أحبتي

وارتبتُ باليقين

أحبتي الصغارُ فاعذروني

عمّا قريبٍ سوف تفقدوني

فإن أنا متُّ وفي قبري دفنتموني

فأسأل اللهَ بأن يرحمني

وأطلب الإعذارَ من قلوبِكُم

لاشك عندي يومها

لاشك عندي... سوف تعذروني»

وعلى الهامش كتب العبارة الآتية: «القصيدة الأخيرة في السجن، القسم الشرقي بالقلعة، بتاريخ يوليو . وقد منّ اللهُ بعدها بالفرج في يوليو . نهاية شهر صفر، مطلع ربيع الأول هـ . وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين».

بعد عشرةِ أعوامٍ وخمسة وسبعين يوماً، بعد أن دار الزمن دورةً أخرى وقد شرب كأساً آخر من الخبل والعجرفة والجنون، عاد إلى القصيدة عند تمام الساعة السابعة والنصف من مساء أمس يقرأها من جديد، وعينه هذه المرة على العراق ودارفور، تغلف قلبه سحابةً من الحزن الشفيف، ويعاوده الحنين ليسأل الصغار والكبار أيضاً هذه المرة: هلا عذرتموني؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1490 - الأربعاء 04 أكتوبر 2006م الموافق 11 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً