العدد 1490 - الأربعاء 04 أكتوبر 2006م الموافق 11 رمضان 1427هـ

جدلية الفنّ والثالوث المحرّم في الرواية

مظاهر اللاجامي comments [at] alwasatnews.com

.

في السياسة والجنس والدين ما يشكّل التابوالأبرز في العالم العربيّ، وهو التابو الكلاسيكيّ الذي يعرف باسم الثالوث المحرّم، ولعلّي أضيف تابواً آخر، مخصّصاً به دول الخليج العربيّ، وهذا التابو هو التابو الاجتماعيّ الذي يتداخل عمقياً مع تابو الجنس والدين، إلا أنه يتمايز عنهم في اختراق المسلمات العرفيّة التي وصلت لحدود القدسيّة لكثرة ما أعيد إنتاجها اجتماعياً على فترات زمنية طويلة سيّجتها بسياج المحرّم.

في المساس بهذه التابوات ما يجرّ الويلات على الكاتب إن تمادى في عملية فضح المسكوت عنه، وسيجد بالتالي صكوك الغفران الليبرالية، أو فتاوى التكفير الدينية، تشهر في وجهه، لكن هذا ليس موضوعنا بالدرجة الأولى، بل الموضوع سيكون هو العلاقة الجدليّة بين انتهاك عذرية الثالوث المحرّم، وبين الفن في الرواية وارتقائها جمالياً بدل أن تنتهك من جانب آخر جماليات الرواية، وتحديداً في روايات التابو.

خطر هذا الموضوع في ذهني بعد قراءتي لروايات شكّلت العلامة الأبرز في انتهاك هذه التابوات، فنجد فيما يخصّ التابو الدينيّ يبرز اسم نجيب محفوظ في روايته أولاد حارتنا، وكذلك رواية حيدر حيدر وليمة لأعشاب البحر، أما فيما يخصّ التابو الجنسيّ فنجد روايتي محمد شكري الخبز الحافي والشطّار، وروايات غادة السمّان وقصصها أيضاً وإن وصلنا لمرحلة أن نجد رواياتها لم تتجاوز الحدّ في اختراق التابوإلا اننا يجب أن نقرأها في سياقها التاريخيّ الذي أنتجت فيه، ومقارنتها بما كتب قبلها وبما كتب تزامناً مع ما كتبت، أما التابو السياسيّ فنجد روايات عبدالرحمن منيف تشكّل العلامة البارزة في فضح وحشية السجن السياسيّ ودهاليزه المظلمة التي تعرّي الإنسان من كلّ إنسانيته لتحيله لرقم من الأرقام التي ستختزنها ذاكرة السجن السياسيّ وذلك في غالبها، ونذكر منها على سبيل المثال شرق المتوسّط والآن هنا ورائعته الأبرز مدن الملح، وما أودّ أن أؤكّد عليه أن هذه ليست الروايات الوحيدة التي اخترقت الثالوث المحرّم في العالم العربيّ، إلا أن هذه الروايات تشكّل منعطفاً ما بين قبل وبعد.

عند قراءتنا لهذه الروايات سنجد فيها من جماليات الرواية الشيء القليل أو الكثير بحسب كلّ رواية، فعلى رغم أن رواية أولاد حارتنا تفتقر لتمايز الشخصيات، خصوصاً بعد أن تنتهي حكاية الجبلاوي مع أولاده ونسترسل في حكايات باقي أولاد الحارة، ما يجعلنا لا نستطيع أن نفرّق بين هذه الشخصية أو تلك، وهذا من المفارقات عند نجيب محفوظ، فعلى رغم سيطرة نجيب محفوظ في رواياته الأخرى على الشخصية وإعطائها تمايزها عن غيرها من الشخصيات، فإنه في هذه الرواية لم يستطع أن يعطيها ملامحها الأساسية فضلاً عن الثانوية، إلا أن ما يشفع لهذه الرواية هو محاولة محفوظ أن يستثمر التراث الدينيّ كاملاً في رواية تجمعها الحارة/ الحياة، وفي رواية حيدر حيدر أيضاً نجد اللغة الشعرية الراقية على رغم الحوادث والشخصيات الكرتونيّة الورقيّة، وما أقصده أن هذه الشخصيات لا توجد إلا على الورق إذ إن الإغراق في الشاعرية يؤدي لإنتاج شخصيات غير واقعيّة على رغم واقعية الحوادث، أما في روايات عبدالرحمن منيف وغادة السمّان ومحمد شكري ما أجد أنهم قد استطاعوا تجاوز هذه الجدلية من رقي الرواية واختراقها للتابوات المحرّمة.

في هذه المقّدمة ما يحيلني للبدء في ما اجترحته في العنوان، وهذا العنوان قد خطر لي بعد أن قرأت عدداً من الروايات، وما إذا كان هناك علاقة بين الانحطاط في أسلوب الرواية وجمالياتها وبين اختراق التابو، أذكر من هذه الروايات على سبيل المثال الرواية الأولى التي قاربت الممنوع والمحرّم في المجتمع الخليجيّ وهي شقّة الحرية لغازي القصيبيّ، حتى تبعتها عدد من الروايات ومنها بغض النظر عن التسلسل الزمنيّ رواية بنات الرياض لرجاء الصانع، ورواية ملامح لزينب حفني، ورواية القِران المقدّس لكاتب ذي اسم مستعار أسمى نفسه بطيف الحلاج، وفي روايات تركي الحمد كثير من هذه الجدلية بين جماليات الرواية وانتهاك التابو، في حين تبرز لنا في الجهة المقابلة روايات عبده خال فسوق والطين وروايات رجاء عالم، وهما وإن كانا قد اخترقا التابو بشكل أو بآخر إلا أنهما استطاعا أن يتجاوزا التابوليقدّما رواية تمتلك مسوّغات بقائها كنصّ جماليّ تخييليّ يمتلك مقومات بقائه.

عند استدعاء أدب الالتزام في فترة شيوع الفكر الايديولوجيّ، وكذلك أدب الوعظ والإرشاد الدينيّ ما يحيلني لاجتراح أسباب سقوط هذا النوع من الأدب عن كونه أدباً يمتلك نوعاً من الجماليات، إما من ناحية المعالجة الدراميّة وإما من ناحية اللغة الأدبية الشعرية أو، أو، من جماليات الأدب الكثيرة... ففي أدب الالتزام وأدب الوعظ نجد أن الكتّاب في غالبهم ينطلقون بدءاً من إثبات فكرة أو مطاردة نظرية يحاولون تجسيدها في عملٍ أدبيّ، لتكون ناطقاً إيجابياً عن الفكر الايديولوجيّ الذي ينطق به الكاتب على لسان الشخصيات الروائيّة، وفي وجهة نظري أن الايديولوجيا حين تسيطر على الأدب فمعنى هذا أن نحكم على الأدب بالتبشير السطحيّ للأفكار بشتّى تجلياتها، وفي هذا أجد السبب الرئيسيّ في ضعف الروايات التي ذكرتها سابقا، إذ تحوّل اختراق تابو الجنس غالباً في الرواية المنتجة في السعوديّة لفكرة لا تفترق كثيراً عن أي ايديولوجية سياسيّة أو فكرية أو عقيدة مذهبية، وبالتالي ستحيل هذه الفكرة الرواية للتبشير بالقيم الأيروسية كحقّ من حقوق الجسد.

ففي رواية ملامح مثلاً نجد أسلوب الكتابة الصحافيّة يسيطر على الرواية، إذ لم ترقَ الرواية لتكون نصاً جمالياً تخيلياً بل إنها أشبه بحكاية تقرأ في صفحات صحيفة، تنأى بها الكاتبة عن كونها رؤية لثيمات المثلية في المجتمعات المغلقة، وفي ثلثها الأخير تحديداً نجد هذه العلاقات بين الفتيات هي المسيطرة على الرواية، حتى تحوّلت هذه العلاقات كعمود فقريّ للرواية من دون معالجة درامية يحيلها من اليوميّ المبتذل إلى الفنّي الجماليّ، وفي هذه الرواية نجد أن الفترة الزمنية التي تدور حوادث الرواية فيها لا تنعكس على السرد فلو انتزعنا التاريخ الذي أثبتته الكاتبة لما استطعنا التفريق بين الفترة الزمنية الحالية وبين المناخ الذي كان في عام النكسة وما قبله، بناء على وقائع الرواية، إضافة إلى ان الرواية لم تستطع أن ترسم ملامح واضحة للشخصيات، وهذا ما نجحت فيه رواية رجاء الصانع إلا أن اللغة العاميّة اليوميّة كانت تسيطر على الرواية حتى في السرد، أي على جميع مستويات اللغة من سرد لحوار، أما رواية القرآن المقدّس التي تحكي قصّة ليلى وعلاقتها بزوجها وما حدث لها أو ما خيّل لها أنه حدث، فهي رواية تصل لحدود الابتذال في السرد والحوار، حتى ان الحوار فيها ليس واقعياً إذ أحالها الكاتب لمجموعة حوارات فلسفيّة ووجوديّة، بين شخصية عشتار وبين ليلى التي ما كانت إلا متماهية مع صوت المؤلف، حتى أن خالة ليلى التي هي ملازمة للمآتم الدينية عند الشيعة تقول في إحدى الحوارات موجّهة نقدها للايديولوجيات الحديثة ما جعلها أشبه بباحثة أكاديمية أو مفكّرة أو مثقّفة على الأقل ما لا يتناسب مع الشخصية التي حاول الكاتب رسم ملامحها .

الأدب مغاير تماما للفكر ولا يعني أن الأدب لا يحتوي على الفكر ولكن أن يكون الفكر والنظريات واختراق التابو هو الأساس فسيحيل الأدب لعملية قصديّة غائية تماماً وهذا فيه نوع من الإرهاق للعمل الجمالي التخييليّ بما لا يحتمل، وجعل التابو رضا وقصداً يحيل الجماليات لهامشٍ ما يجعل التنافس بين الكتاب يكون على أساس من يتجرأ في اختراق التابو أكثر ورفع حدّة اللهجة في قصّ الخطوط الحمراء للجنس والدين والسياسة، حتى أصبح الحديث عن الروايات الحديثة غالباً يتناول حدود الاختراق للثالوث المحرّم وأصبحت الجماليات قيمة ثانوية

العدد 1490 - الأربعاء 04 أكتوبر 2006م الموافق 11 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً