«العالم الجديد» يعرض حالياً في سينما السيف. الفيلم عموماً يتحدث عن فترة الاكتشافات الجغرافية التي انطلقت في أوروبا في مطلع القرن الخامس عشر وانتهت في آخره بالوصول إلى جزر أميركا.
المخرج لا يتطرق إلى عمليات الاكتشاف وانما عن مضمونه الثقافي ومعناه التاريخي من خلال لغة سردية اعتمدت التواصل بالاشارات والأصوات والصدمات الأولى التي تحصل عادة بين عالمين لا يعرفان بعضهما بعضاً ولكن المصادفة جمعتهما في لحظة زمنية.
لذلك طغت على الشريط السينمائي الطويل ( دقيقة) لغة شاعرية تتداعى وتتساقط من دون حوار. فالمخرج تعمد إلغاء الحوار الدرامي واكتفى بالتصوير. فالصورة هي لغة الفيلم وهي الحوار الرابط بين مشاهد مختلفة تحاول التقاط مفارقات بين عالمين يختلفان في الثقافة ونمط الحياة وأسلوب العيش والنظرة إلى الدنيا والآخرة.
الفيلم جميل وساحر في تصويره للمشاعر الإنسانية وانفعالات البشر وتطور العلاقات سلباً وايجاباً. فاللغة التي اعتمدها هي الصورة والحوار والاشارات وكل ما تعنيه حركة الجسد من دلالات ورموز وألغاز. وهذا فعلاً ما حدث أو على الأقل يشكل الجانب المذكور ذاك المنطق الصامت الذي يربط بين ثقافتين تتحدثان بلغة مختلفة. فاللغة معدومة في الفيلم فهي صوتية وليست كلامية. الحوار يتم بين ناس ينتمون إلى شعبين لا يتحدثان اللغة نفسها. والاشارات هي لغة الشريط السينمائي وحركة الجسد هي تلك الدلالات التي تعطي فكرة عن القول. فالجسد هو الاحاسيس والمشاعر، والصوت هو البديل عن قول كلمات غير مفهومة ولا تصل للآخر.
يبدأ الفيلم لحظة وصول مجموعة سفن مبحرة من انجلترا باتجاه «العالم الجديد» في مطلع القرن السابع عشر. آنذاك كانت الاكتشافات الجغرافية تقدمت كثيراً وأوغلت قتلاً ونهباً في تلك الأراضي الجديدة. وبسبب توسع الاكتشافات اتجهت السفن شمالاً ووصلت إلى أقاصي المعمورة.
الشريط السينمائي لا يتحدث عن تلك المغامرة ودوافعها السياسية والاقتصادية وانما يتجه إلى تناول جوانبها الإنسانية وما تعنيه من انفعالات ومشاعر واحاسيس.
من هنا يبدأ الفيلم من لحظة وصول تلك الحملة إلى ما يعرف اليوم بولاية فرجينيا في الولايات المتحدة. السفن حطت في تلك الأرض في العام وقرر المستوطنون الاقامة هناك وتشييد مستعمرة تشكل نقطة ارتكاز لتوسعهم اللاحق من أجل خدمة أهداف الامبراطورية البريطانية.
في تلك المنطقة الغنية بالتربة الخصبة والمياه كانت تعيش قبيلة هندية تمتد مملكتها على طول النهر وعمقه. وتلك القبيلة التي يرأسها شيخ جليل متزوج من امرأة وانجب مئة ولد احست بالخوف من هؤلاء الغرباء. من هم هؤلاء؟ ماذا يريدون؟ ولماذا حطت سفنهم في أرضهم ومياههم ورزقهم؟
هذه اللغة كانت داخلية. فالكلام لم يخرج من القبيلة وانما شكلت اسئلة البدايات الأولى. ماذا نفعل بهم وكيف نتعامل معهم؟ وهل نتركهم يتكاثرون أم نضغط عليهم للرحيل؟
الحوار هذا لم يكن بين طرفين وانما في طرف واحد. القادمون أيضاً كانوا في حال تردد وخوف. فبرأيهم انهم أصحاب حق وهذه الأرض هي «أرض الميعاد» والهنود وحوش وجماعات متخلفة لا تعرف كيف تستثمر الأرض وتستفيد منها. كذلك جاء هذا الحوار في جانب واحد ولم ينتقل إلى الآخر.
الحوار المقطوع سببه عدم وجود لغة مشتركة للتفاهم. فلكل طرف لغته. وبسبب هذه الفجوة بدأ الاحتكاك. لغة الاحتكاك كانت البديل الموضوعي للتعارف. ومن خلال الاحتكاك نكتشف تلك الثقافة الجميلة للهنود. فهؤلاء لا يعرفون البغض والكراهية ولا يفهمون معاني الكلمات القبيحة والسيئة. ثقافة الهنود بسيطة ملتصقة بالأرض وطبيعية. وحياة القبيلة جماعية وتضامنية وتكافلية. فالكل يعمل والكل يزرع ويصطاد ويبني. وعموماً حياتهم بسيطة لا كلفة فيها ولا تكلف. فالزراعة بدائية وتكفي لسد الحاجات والصيد بدائي ولكنه أيضاً يلبي الضروريات الغذائية.
مقابل هذه الثقافة الطبيعية والبسيطة تظهر تلك الآتية من وراء البحر. فهي على عكس الهنود. انها قاسية وشرسة وتنافسية وتسودها النميمة والجشع والطمع وحب التغلب والاستئثار.
الاخطر من ذلك انها مسلحة بالقوة والنيران والمدفعية والاحساس بالتفوق والشعور بانهم على حق ومن حقهم الطبيعي والايديولوجي (الديني) السيطرة على الأرض وطرد أهلها حين تأتي الفرصة وإذا اقتضت الضرورة.
بين الثقافتين هناك قصة حب. والقصة تبدأ عند لقاء الفتاة بالشاب الذي القي القبض عليه واقتيد إلى رئيس القبيلة. مجلس القبيلة يقرر قتله والفتاة (ابنة الرئيس) تتوسط له ويفرج عنه وترك له حرية العيش في وسطهم. وهنا يكتشف الشاب (الكابتن سميث) روح هذه الحضارة وجوهرها الرائع. كذلك يتعلم عاداتها وتقاليدها وطرق عيشها من خلال لغة الاتصالات بالاشارات مع أفرادها وتلك الفتاة الصغيرة (الأميرة).
وقائع الفيلم طويلة وقصته متداخلة. لكنها في الأخير تنتهي بانتصار الأوروبي وثقافته التي لا تعرف سوى لغة العنف والاقتلاع والتشريد. وهكذا تقتلع القبيلة من أرضها وتقع الفتاة (الأميرة) بين الولاء لوالدها الرئيس وبين الحبيب. وتختار الثاني فتطرد من القبيلة وتلجأ إلى تلك المستوطنة التي اخذت بالتوسع وترسيخ اقدامها واستجلاب المزيد من المستعمرين باسم بناء «العالم الجديد».
هذه الفتاة الطيبة التي تخون والدها وقبيلتها يتركها الحبيب (الكابتن) بعد ان طلبته حكومة بريطانيا بقصد تكليفة بمهمات اكتشافية جديدة. فالحبيب فضل المصلحة والطموحات الشخصية واختفى عن انظارها وتركها تغرق في حلم جميل لا تعرف كيف تخرج منه.
المهم ان «الأميرة» تتحول إلى اسطورة في بريطانيا حين تقرر التنصر (مغادرة معتقداتها القديمة) وتوافق على تغيير اسمها. وبسبب صيتها تطلب ملكة بريطانيا زيارة لندن برفقة زوجها الجديد الذي عاشت معه في مزرعته في فرجينيا وانجبت منه وعلمته زراعة التبغ.
وتذهب «الأميرة» إلى لندن مع زوجها وطفلها وتلتقي هناك حبيبها الأول (الفار منها) وتكتشف انه ليس الرجل الذي تريد.
نهاية القصة مؤلمة. فالفتاة الهندية/ الأوروبية تموت في لندن ويعود زوجها مع طفلها إلى «العالم الجديد» لتأسيس نواة تلك الدولة التي هلكت الناس لاحقاً.
ليس المهم في الفيلم روايته. فالقصة عادية وقليلة الكلام وتعتمد على الحوار الداخلي وتداعي الأفكار في عمق القلب. ولا شك في ان المخرج تعمد هذا الشكل من الرواية لأن الهدف ليس شرح سياسة الاكتشافات وانما كشف ذاك الجانب الثقافي/ الشاعري الذي يعتمد سحر الكلمة ولغة الجسد والاشارات. فالحدث الذي تقوم عليه الفكرة هو اللحظات الأولى لتلك الصدمات. الصدمة الأولى في الاحتكاك، في الكلام، في الحب، في الزواج وكذلك في الغدر والظلم والمغامرة... وأخيراً الموت
العدد 1489 - الثلثاء 03 أكتوبر 2006م الموافق 10 رمضان 1427هـ