العدد 1489 - الثلثاء 03 أكتوبر 2006م الموافق 10 رمضان 1427هـ

رايس و«الصوغ الجديد» للسلام

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بدأت وزيرة الخارجية الأميركية جولتها في المنطقة تحت عنوان «إعادة احياء عملية السلام». كوندوليزا رايس تقول إنها في صدد «صوغ خطة جديدة» للمسألة تقوم على فكرة محاصرة «القوى المتطرفة» من خلال تقديم «شيء ما» لمن تسميهم «القوى المعتدلة».

هذا الكلام بحاجة إلى قراءة لتفكيك عناصر الفكرة الجديدة التي يبدو أن الإدارة الأميركية قررت الاشتغال عليها بعد عدوان يوليو/ تموز الماضي على لبنان. الفكرة تشير إلى وجود مخاوف لدى «البيت الأبيض» من نمو قوى «التطرف» في المنطقة. والنمو سببه تلك الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها واشنطن في سياستها العامة وتحديداً خلال الفترة الأخيرة الممتدة منذ العام . فالإدارة في فترة السنوات الخمس وضعت نقطة واحدة في جدول أعمالها وتلخصت في مكافحة «الإرهاب» وقسمت في ضوء تلك النقطة العالم إلى شطرين «معنا» أو «ضدنا». واعتبرت مهمتها عاجلة ولا وقت لديها للبحث في التفصيلات لأن «الإرهاب» لا ينتظر. وقررت أخذ المسألة على عاتقها معتبرة أن العالم سيتفهم تسرعها وسيلحق بها حين تبدأ النتائج الميدانية تثمر سياسياً.

وبسبب هذا الموقف المتسرع تجاذبت قوى العالم تيارات تفاوتت بين موافق على الرأي الأميركي ومعارض له أو متردد. وتصادمت تلك المواقف على مجموعة تعريفات وتحديدات لجوهر التمييز بين «الإرهاب» والمقاومة. واشنطن رفضت التمييز واعتبرت أن من يخالف السياسة الأميركية لاعتبارات أخرى يقع في معسكر «الإرهاب». وكل من يتعاطف معها يصنف في معسكر «الأصدقاء». إلا أن النتائج الميدانية التي توقعت واشنطن أن تؤتي ثمارها السياسية بسرعة أنتجت مجموعة اعتراضات وممانعات حتى في المعسكر الذي صنفته تقليدياً إلى جانبها. وهذا المستجد في علاقات أميركا الدولية مع الأصدقاء كشف عن وجود ثغرات كبيرة في تلك الاستراتيجية التي اختصرت سياستها في بند واحد لا يعير أي اهتمام لمشكلات أخرى مزمنة مثل القضية الفلسطينية.

مشكلة أميركا أنها لم تكتف في تقسم العالم سياسياً إلى «مع» و«ضد» وإنما جنحت إلى تقسيم التاريخ إلى زمنين: قبل هجمات سبتمبر/ أيلول وبعدها. وتحت سقف التقسيم الزمني للعالم اتجهت أميركا إلى تجاهل كل القضايا العادلة التي تنتمي إلى فترة ما قبل سبتمبر وركزت اهتمامها على تلك النقطة متخذة من الحروب وسيلة وحيدة للحل.

الآن وبعد حروب أميركا المباشرة أو بالوكالة وصلت واشنطن إلى قناعة مستخلصة من دروس المواجهات الميدانية وتقوم على مبدأ جديد يعتمد تصورات أوسع من نقطة «الإرهاب» الضيقة. وفكرة «إعادة احياء» أو «صوغ خطة جديدة» للسلام في «الشرق الأوسط» لم تأت من فراغ وإنما جاءت استجابة لضغوط صدرت عن «المعتدلين» لا «المتطرفين». فالمعسكر المحسوب تقليدياً إلى جانب واشنطن أخذ يتململ ويتجه نحو أخذ مسافة من سياسة قاصرة أورثت المنطقة الفوضى وعدم الاستقرار وبررت لشبكات «الإرهاب» أفعالها وأعمالها وأقوالها.

الكلام الأميركي إذاً عن صوغ «خطة جديدة» للسلام جاء في سياق تحولات طرأت على سياسات القوى المعتدلة التي وجدت في التصعيد الذي تنتهجه واشنطن مجرد قفزات في الهواء. فالتصعيد يتجاوز تعقيدات الواقع ويسقط في النهاية في مجهول يزيد من فرص «التطرف» ويعطيه الذرائع لتطوير أسلوبه وتنويع أدواته.

يبقى السؤال: هل تستطيع أميركا فعلاً تغيير سلوكها وتطويع استراتيجيتها بما يتناسب مع مصالح المنطقة؟ كل الاحتمالات تستبعد هذا الترجيح بسبب عدم توافر تلك الإمكانات المطلوبة لتوفير منهجية متوازنة في التعامل الموضوعي مع قضايا المنطقة.

مثلاً هل تستطيع واشنطن الضغط على تل أبيب واقناعها بضرورة الالتزام بالقرارات الدولية؟ وهل هي قادرة فعلاً على الضغط على حكومة إيهود أولمرت للانسحاب من الضفة الغربية وتفكيك المستوطنات وإزالة «جدار الفصل العنصري» والتفاهم مع السلطة الفلسطينية على قيام دولة قابلة للحياة؟

مثلاً هل تستطيع إدارة جورج بوش إلزام تل أبيب بالتوافق مع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بلبنان والجولان؟ وهل هي قادرة على ترتيب «خطة جديدة» تتصل بالموضوع الفلسطيني وتحديداً مسألة النازحين واللاجئين؟ وهل يستطيع «البيت الأبيض» اقناع حليفه الإسرائيلي بضرورة الاقلاع عن مشروعه النووي والدخول في تسوية شاملة وعادلة مع دول المنطقة؟

هناك الكثير من الأسئلة يمكن رصفها وكلها تشكل عناصر ضغط على المنطقة ولا يمكن أن تستقر الأوضاع من دون التوصل إلى حلول منطقية ومعقولة بشأنها. فهل أميركا فعلاً في حال من «الصحوة» السياسية التي أملت على واشنطن التحرك باتجاه اتخاذ خطوة جديدة لإعادة احياء عملية السلام في ضوء ما ذكرته رايس عن «صوغ جديد» لتلك الاستراتيجية التي اعتمدتها واشنطن خلال أكثر من نصف قرن.

المؤشرات لا تذهب في هذا الاتجاه. فالمسألة معقدة وأصعب بكثير من تلك الكلمات التي صدرت في تصريحات الوزيرة الأميركية. فالكلام كما يظهر من خلال القراءة الأولى مجرد رمي الحجرات في مستنقع. والقصد منه تحريك الأجواء لا محاصرة المشكلات والعمل على فتح قنوات لتصريف عوامل الانفجار التي تحتويها.

مفاعيل جديدة

إذا كان هذا هو حال المنطقة وهذه هي التوقعات لماذا إذاً جاءت رايس وماذا تريد من جولتها؟ هناك الكثير من التطورات يمكن رصد مفاعيلها بعد العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان. وأبرز تلك النقاط يمكن إجمالها بالاحتمالات الآتية:

أولاً: أعطت الحرب وظيفة مباشرة وهي تأمين حدود الدولة العبرية في منطقة الشمال من خلال نشر القوات الدولية (يونيفل) إلى جانب الجيش اللبناني. واقفال هذه الثغرة الأمنية يعطي فرصة مؤقتة لتل أبيب لإعادة النظر في دورها وموقعها ويفسح لها المجال للتركيز على الجبهة الفلسطينية والتفرغ إلى مهمات أخرى حين تحتاج إليها واشنطن. أما الدولة اللبنانية فهي ليست مسألة مهمة في الاستراتيجية الأميركية الآن ويمكن تركها على قارعة الطريق في انتظار حلحلة بعض الأمور الأخرى العالقة في أمكنة قريبة وبعيدة.

ثانياً: تأمين الحدود الشمالية إلى فترة وجيزة يعطي حكومة أولمرت فرصة زمنية لمعالجة «الملف الفلسطيني» الذي قالت عنه وزيرة الخارجية الإسرائيلية إنه يحتل الآن الأولوية في جدول أعمال تل أبيب. وجاء كلام ليفني رداً على اقتراحات وزير الدفاع عمير بيرتس حين طالب بفتح ملف الجولان وقراءة تلك الإشارات الإيجابية التي صدرت من دمشق.

ثالثاً: الاطمئنان الإسرائيلي لمختلف الجبهات العربية المحيطة بها تعتبره واشنطن مناسبة للدخول في معالجة جدية للملف الفلسطيني وخصوصاً أن السلطة الآن تعاني من انقسامات داخلية تراهن عليها تل أبيب وتأمل أن تسفر عن تداعيات تفتح الطريق لتشكيل حكومة جديدة قابلة للتفاوض على مشروع سياسي ينسجم إلى حد نسبي مع «خريطة الطريق».

هذه المفاعيل تعتبرها واشنطن كافية لإطلاق مبادرة «إعادة احياء عملية السلام» في ضوء «صوغ جديد» للأفكار. فأميركا تراهن على أن الموضوع الفلسطيني بات جاهزاً للحل ويحتاج إلى غطاء عربي لدفعه باتجاه تفاهمات قابلة للتطبيق ولا تلقى تلك الاعتراضات التقليدية من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

إلا أن «الصوغ الجديد» يتعدى الإطار الفلسطيني. فهو يبدأ من هناك ولكنه بحسب التوجه الأميركي ينتهي في أمكنة أخرى تمتد من تدويل إقليم دارفور في السودان إلى تدويل «الملف النووي» الإيراني. فالهدف ليس العمل على حل للمسألة الفلسطينية وانما اتخاذ تلك المسألة واسطة سياسية لمشروع أوسع بدأت واشنطن بالاشتغال عليه. ويأتي «الملف النووي» على رأس جدول أعمال الولايات المتحدة في الفترة المقبلة. فهذا الملف يشكل الآن الاهتمام الأول وجولة رايس جاءت في هذه المناسبة وليس بسبب حصول «صحوة» سياسية أملت على واشنطن إعادة التفكير باستراتيجيتها.

الاستراتيجية الأميركية لم تتغير. وانما التكتيكات تبدلت وعاد «الملف النووي» ليحتل المكان الأول بعد تراجعه أو تجميده إلى فترة على إثر نجاح «حماس» في الانتخابات التشريعية وحصول مخاوف لدى الإدارة من وجود تواصل أو اتصالات تمتد من غزة إلى لبنان.

الآن تبدو إدارة «البيت الأبيض» أنها باتت على قناعة بأنها حققت ذاك الفصل المطلوب بين الحلقتين اللبنانية والفلسطينية وانها نجحت في عزل الحدود وتأمين حاجز أمني دولي يعطي فرصة لتل أبيب لحل بعض المعضلات مع الرئيس محمود عباس. وهذا الحل المتوقع تراهن عليه رايس لإعادة «صوغ خطة جديدة» تشد من عزيمة «القوى المعتدلة» وتحد من نمو «القوى المتطرفة»... وبعدها تصبح الولايات المتحدة متفرغة للتركيز على الملف الأول والأهم: إيران

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1489 - الثلثاء 03 أكتوبر 2006م الموافق 10 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً