تظل الحلقات الأولى من المسلسل الخليجي/ السعودي «طاش ما طاش» لهذا العام، صادمة وغير متوقعة، سواء من حيث مضامينها المكررة، أو حتى معالجاتها السطحية، يضاف إلى ذلك الرؤية الاخراجية لـ عبدالخالق الغانم، والتي جاءت في دورتها الرابعة عشرة أقل بكثير مما تم انجازه على امتداد ثلاثة عشر عاماً.
ما الذي يدفعنا الى تقرير مثل هذا الرأي؟ مع انقضاء الأسبوع الأول، والدخول في الأسبوع الثاني، لن يلومك أحد بالخروج بتلك الرؤية والتقرير لسبب واحد: أن الحلقات الأولى من المسلسل المذكور، وطوال عاماً ظلت تمرر العميق والمهم والملفت من المشروع، وخصوصاً أن «طاش ما طاش» يقوم على وحدات منفصلة في الموضوعات والمعالجات، ما يتيح له هامشاً من التحرك، والإضافة في المعالجات وطول النفس، بعكس لو أن العمل ارتكز على قصة واحدة في توجهها، تعمل طوال حلقات العمل على طرح قضية معينة تنتهي بمعالجة معينة أيضاً. وأعتقد جازماً أن سبب نجاح المسلسل هو نأيه عن تلك اللازمة التي وسمت الأعمال الدرامية والمسلسلات العربية لأكثر من عقود من الزمن. ثم ان النمط الكوميدي الذي يقدم من خلاله العمل، يظل نفسه قصيراً في حال خضع الى رهان القصة الواحدة، والمعالجة المحددة، ليس لأن طاقم العمل، وخصوصاً عبدالله السدحان، وناصر القصبي، لا يملكان القدرة على ذلك النمط من الأعمال، بل لأن الإطار الذي وضعا نفسيهما فيه بات من الصعوبة الخروج منه، باللجوء الى تعدد الفضاءات والمعالجات لحزمة عريضة من الإشكالات والقضايا، ليس في المجتمع السعودي فحسب، بل يكاد الأمر ينسحب على المجتمعات العربية كافة.
تلك المرونة في فضاء المعالجة يبدو انها عجزت عن أن تؤتي نتائجها المرجوة والمتوخاة لهذه الدورة، ربما لأسباب عدة أرى انها في الصميم من التراجع الذي تبدى طوال حلقات من المسلسل، منها: لجوء الشريكين في العمل - السدحان والقصبي - من خلال مركز تلفزيون الشرق الأوسط «cbM» الى ابتكار الحافز على مستوى كتابة النصوص، علاوة على الوجوه التي فردت لها مسابقة للمشاركة في العمل بعد سنوات من الوجوه المتكررة.
ما حدث هو أن اللجنة لم يتح لها الوقت الكافي لبلورة وغربلة الأعمال التي قدمت الى الشركة التي أسسها السدحان والقصبي: «الهدف» بالتعاون مع «آرا للانتاج» التابعة لمحطة «cbM»، اضافة الى أن اللجنة افتقدت الى الأسس والمعايير الفنية، خصوصاً اذا ما عرفنا أن من بين محكامين - هم أعضاء اللجنة، ضمت كاتبين لهما علاقة بتقييم النصوص، فيما بقية الأعضاء توزعوا بين فنيي تصوير وإلقاء وممثلين من طاقم العمل نفسه. لذلك تبدو الملاحظة على تراجع المسلسل في دورته الرابعة عشرة من خلال النصوص نفسها بالدرجة الأولى، اذ تمت اعادة انتاج بعض الأفكار التي تم اقرارها وأداؤها في دورات سابقة تتعلق بالدجل والسحر، والتهكم من تهميش دور المرأة في احدى الحلقات بإضفاء صبغة من المبالغة والتهويل في دورها باتجاه عكسي لم يخل من تهكم في درجته القصوى من اللاواقعية!.
لا يمكن إنكار انه تم التقاط نماذج حية ومتحركة في البيئة الخليجية بل والعربية، لكن الالتقاط وحده لم يكن كافيا للخروج بمعالجات مقنعة، يمكن للكوميديا أن ترفدها باعتبارها احدى الوسائط المحببة والمقنعة، الا أن الإفراط في التعويل على ورقة الكوميديا المحضة دفع بها الى السقوط، وكشفت عن وهن ربما لم يلتقطه أو يقف عليه قطاع عريض من متابعي المسلسل.
الملاحظ على المسلسل في دورته الرابعة عشرة، انه عمد الى الاسفاف على مستوى الأداء في تخريجة لعب فيها تكرار الحركة والمشهد دورا رئيسيا. على سبيل المثال، مشهد استقبال القصبي لشقيقه (فؤاد) والقبلات المتكررة، وما تلاها من صفعات متكررة في الوقت نفسه بعد كل قبلة، ما دفع - خصوصا مع الفاصل الاعلاني المتكرر والمزعج - الى الظن بأن ثمة اعادة للمشهد، فيما الأمر على خلاف ذلك. ثمة تمطيط للمشهد، واعادة لانتاج الحركة، فيما الحوار هو الآخر متورط ومتواطئ مع حال التمطيط واعادة الانتاج تلك، ما يكشف عن ورطة على مستويين: مستوى النص الذي يراد اختزاله وتجيير الحركة والأداء ليتجاوزانه، ومستوى المساحة التي يتحرك فيها النص في سابقة للمسلسل تكشف عن أن أكثر من الى أربع حلقات لم يبذل فيها السيناريو دوراً كبيراً، تاركاً المساحة الى اللقطة وما تتضمنه من حركة أو هامش صمت، وإن تعدى الأمر ذلك، فلا يعدو كونه جملاً مختزلة لا تتوافق في كثير من مقاطعها مع ما يتم تمريره من حركة أو تركيز يكاد يقترب من الـ (mooZ) اذ يبدو التركيز على الزاوية: الوجه، المكان، الفضاء، ضرباً من تضييع الوقت، وتمرير الزمن المراد له أن يكون حاكماً ومهيمناً على موضوع المعالجة (الحلقة).
أخشى ما أخشاه أن أسهم المسلسل والقائمين عليه: السدحان، القصبي، الغانم، أصيبت كما أصيب غيرها بداء الانشداد والاستسلام لفوضى لا تخلو منها السوق، والسقوط في بئر اغراء التمويل الذي تكفل به تلفزيون الشرق الأوسط، يضاف الى ذلك، ارتفاع أسهم الرجلين في بورصة الأجور، بحيث أصبحا في المركز الأول من دون منازع بين فناني الخليج عن بكرة أبيهم، وبالاستسلام بشكل مطلق الى المثل الشائع: «الرزق يحب الخفيه» ما يدفع بالسدحان والقصبي ومن بعدهما مئات من الممثلين والمطربين وحتى الكتاب الى السقوط في أكثر من بئر.
لست بحاجة الى أن يذكرني أحدهم أنني أثنيت على المسلسل في مقال نشر في ملحق «ألوان» قبل أسبوعين، في قراءة مختزلة لثلاثة عشر عاما من الإنجاز الذي اتفق على روعته كثيرون، ولكن دوام الحال من المحال
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1489 - الثلثاء 03 أكتوبر 2006م الموافق 10 رمضان 1427هـ